عجزٌ وفشلٌ وشلل!
فيما يخص القدس عموماً، وفيما يتعلق «بالأقصى» تحديداً، لا يوجد في الواقع أي مراوغة إسرائيلية على الإطلاق، وإسرائيل واضحة تماماً في سياساتها.
نحن في الحقيقة من يراوغ، أقصد القيادات الفلسطينية، من كل أنواعها وأصنافها، ونحن ندّعي، أو نحاول أن ندّعي بأن السياسات الإسرائيلية حيال الحرم الشريف هي مراوغة ومخادعة، وذلك لأن في صلب ادّعاءاتنا يكمن سرّ العجز والفشل والشلل الذي نحن عليه، ويكمن «التبرير» الذي «نحتاج» إليه في «تلطيف» الحالة السيئة التي وصلنا لها.
فقد استولت إسرائيل على دور الأوقاف الأردنية والفلسطينية بالكامل، ولم يبق من هذا الدور سوى بعض الشكليات الإجرائية، وذلك لأن السماح بدخول منطقة الحرم القدسي الشريف كان محصوراً ومنوطاً بالأوقاف تحديداً، وقد فقدنا هذا الدور، وأصبحت الشرطة الإسرائيلية هي التي تحدد وتشرف وتدير وتضبط كل من يدخل أو يخرج منه.
لم تتمكن القيادات الفلسطينية من كسر هذه المعادلة التي كانت قائمة في الثمانينيات، عندما لم تكن قوات الأمن الإسرائيلية تدخل إلى الحرم، ولم تكن لها سلطة مباشرة عليه.
أقصد أن أحداً لم يخض هذه المعركة، ولم يتم «انتباه» الفصائل لهذا الأمر الحيوي والخطير، بالرغم من «النباهة» التي لديها عندما يتعلق الأمر بمصالح هذه الفصائل وامتيازاتها ومواقعها وحصصها ومكتسباتها وسلطاتها.
وحتى عندما بادرت الحركات الشبابية وكل الأجسام الوطنية، السياسية والاجتماعية، وحتى «المؤسسات» الدينية إلى خوض معارض حقيقية في أحداث النفق، ومعركة البوابات الإلكترونية، والكثير الكثير من المعارك حول كل باب من أبواب المدينة، وحول كل شارع وزقاق، وعلى مدار عقود من البطولة والافتداء، فإن الفصائل، كل الفصائل كانت عاجزة عن خوض معركة الحرم الشريف باعتبارها معركة فاصلة، وباعتبارها معركة كسر عظم، أو معركة مصيرية سيتحدد في ضوء نتائجها مصير المسجد ومصير كامل محيطه.
إسرائيل بكل وضوح وبساطة وتحديد ملموس تريد ليس مجرد التقسيم الزماني والمكاني للحرم ـ فهذه مسألة منتهية بالنسبة لها ـ وإنما تريد تكريس واقع جديد مفاده أن الحرم هو المسجد القبلي، وأما كل الساحات والباحات فهي منطقة «دينية» مشتركة، هي المسؤولة عن تنظيم الدخول إليها والخروج منها، حسب برامج المستوطنين وجماعات التطرف الديني اليهودية، والتي يتمحور نشاطها حول أسطورة الهيكل المزعوم.
الموقف الإسرائيلي يريد أن يقول إن «حصة» المسلمين الحصرية هي المسجد القبلي، أما باقي ساحات وباحات الحرم فلا بدّ من تنظيم الدخول إليها «منعاً» للاحتكاك، تماماً كما تمّ تكريس الأمر بالنسبة للحرم الإبراهيمي في الخليل.
فمثلاً، يمكن أن تطرح إسرائيل في قادم الأيام جداول زمنية صباحية، أي بين نهاية صلاة الفجر، وإلى ما قبل صلاة الظهر كفترة زمنية مفتوحة «لزيارات» المستوطنين في كل يوم باستثناء أيام السبت والجمعة.
ويمكن أن يُسمح لليهود في كل الأعياد اليهودية بالتجول وإقامة الصلوات في كل الساحات والباحات باستثناء المسجد القبلي.
ويمكن أن يُسمح للمصلين المسلمين التجوّل «بحريّة» والصلاة في كل أوقاتها في شهر رمضان والأعياد الإسلامية باستثناء الاقتراب مع حائط البراق.
هذا ما تخطط له إسرائيل، وهو أبعد من مجرد التقسيم الزماني والمكاني، وأخطر لأنه «سيكرّس» حصر الحرم الشريف في منطقة واحدة، وسيكرّس «المسؤولية» الإسرائيلية عن باقي أجزاء الحرم.
الاستعداد الشعبي لخوض هذه المعركة الفاصلة ـ حتى وإن جاءت متأخّرة ـ لأنها معركة كان يجب أن تُخاض منذ زمن بعيد، الاستعداد الشعبي كبير، وحتى كادر الحركة الوطنية هو على كامل الجاهزية لخوضها، لأن هذا الكادر يعرف ويدرك أبعادها وتبعاتها، لكن القيادات الفلسطينية، من كل أنواع القيادات، التابعة والمتبوعة للسلطات، هنا وهناك، ليس فقط ليست على نفس هذه الدرجة من الجاهزية والاستعداد، وإنما هي في الواقع ليست على استعداد لاعتبارها معركة فاصلة، أو حتى ضرورية، والسبب واضح تمام الوضوح.
خوض معركة فاصلة على هذه الأهمية، وإلى هذه الدرجة من الحسم والمصيرية سيعني التحول الحتمي إلى مجابهة شاملة، والتحول إلى معركة جماهيرية واسعة ستعني الانتقال إلى انتفاضة وطنية كبيرة، وهو الأمر الذي يهدد دور ومكانة وبقاء القيادات. وإليكم حقيقة المخاوف «القيادية» الفلسطينية من تطورات وتحوّلات كهذه.
لو أخذنا حقيقة المواقف الإسرائيلية سنلاحظ بكل سهولة أن هذه الحكومة باتت تتأرجح بشدة، إذا ليس بوسعها كبح جماح غلاة المتطرفين، وهي لا ترغب بذلك، ولا تقوى على ذلك، وستسقط إذا «اضطرت» إلى ذلك.
قادة اليمين المتطرف، واليمين الأقل تطرفاً، قليلاً أو كثيراً يفضلون سقوطها على «الصدام» مع غلاة المستوطنين، لأن هذا الموقف بالذات هو «الضمانة» الوحيدة لهم للبقاء على المسرح السياسي في حال إن سقطت لهذا السبب، أو لأسباب أخرى، مشابهة أو مختلفة.
أما «الإقليم» العربي فهو يخشى من التحولات السياسية نحو هذا المسار، الذي يمكن أن «يورّط» كامل الإقليم نحو توترات كبيرة قد تؤدي إلى حرب إقليمية شاملة.
القيادات الفلسطينية ليست على أي درجة من الاستعداد أو الجاهزية للمساهمة المباشرة، أو الانخراط في عملية كفاحية من شأنها أن تؤدي إلى انتفاضة وطنية عارمة، أو إلى حرب إقليمية، لأن مصير هذه القيادات سيصبح في مهبّ الرّيح.
ولهذا فإن «الإقليم» يضغط على القيادات في الضفة وفي غزة على حدٍّ سواء، للبحث عن مساومات مؤقتة قبل فوات الأوان، وقبل الانفجار الشامل لأحداث الحرم الشريف.
وحتى البيئة الدولية فإنها تسابق الزمن قبل فلتان الأمور، ليس حرصاً على الحق والعدل، وإنما خوفاً من تشتيت جهود الولايات المتحدة والغرب عن «أم المعارك» في أوكرانيا، وخوفاً من تورطهم في حرب إقليمية قد تطيح بكامل تلك الجهود.
لذلك فالمعركة بالنسبة لإسرائيل هي في هذه المرحلة معركة «التنظيم والترسيم» للحرم القدسي، أما بالنسبة للقيادات فهي ليست أكثر من «حفظ ماء الوجه»، أما عبارات الشجب والاستنكار والإدانة، «بأشدّ» العبارات، وحروب ومعارك التهديد والوعيد، وشعارات (إن عدتم عدنا، والأيدي على الزناد، ولن نترك الأقصى وحيداً، ولن نترك جنين وحدها)، وكذلك قلب الطاولة في وجه الجميع، فكلها في الواقع مجرد تعبيرات عن حالة العجز والفشل والشلل، أكثر من مواقف حقيقية تعكس نوايا واستعدادات حقيقية، لمسار كفاحي جديد، يؤسس لمرحلة جديدة من الوعي الوطني للمخاطر والتحديات الوجودية التي تحدق بشعبنا وحقوقه وأهدافه وتطلعاته.
المعركة على الحرم ليست مجرّد معركة، وحساباتها معقدة للغاية، وإسرائيل قد ترتكب بعض الأخطاء القاتلة، وفي مطلق الأحوال فإن سياستها حيال هذا الأمر تنطوي على مغامرة، وربما مغامرة كبرى غير محسوبة، أما مواقف القيادات الفلسطينية فإنها بكل تأكيد مقامرة ومحسوبة، أيضاً.