لا تركنوا إلى هذا التوقف المؤقت
قد بلغ السيل الزبى، بعد أن أصبح كل شيء واضحا بالنسبة لمخططات دولة الاحتلال إزاء المسجد الأقصى، ولم يعد ثمة وقت للحسابات.
بعد فترة طويلة من سياسة الاقتحامات اليومية بمشاركة وحماية الجيش والشرطة الإسرائيلية، يتعرض المسجد الأقصى إلى تحول خطير نحو فرض التقسيم الزماني والمكاني.
الممارسة على الأرض تكشف زيف الخطاب الإسرائيلي بشأن الرغبة في التهدئة ومنع التصعيد، حيث كثّف المستوطنون اقتحاماتهم للمسجد الأقصى، بحماية ومشاركة من قبل الجيش والشرطة في أوقات معينة، يتم خلالها قمع الفلسطينيين، ومنعهم من التواجد في المكان والزمان الذي يشغله المستوطنون.
الأمر لم يعد مرهوناً بعدد من المتطرفين اليهود، بل أضحى سياسةً حكومية مكشوفة، ومكشوفة أهدافها، لكل ذي بصرٍ أو بصيرة.
تريد حكومة بينيت أن تسجل لنفسها إنجازاً، لم تنجح في تحقيقه حكومة نتنياهو، من خلال فرض التقسيم الزماني والمكاني للمسجد الأقصى، على غرار الحرم الإبراهيمي، وبموازاة ذلك، منعت قوات الاحتلال الفلسطينيين من الدخول إلى الحرم الإبراهيمي، وسمحت للمستوطنين إحياء ما يسمى عيد الفصح، وأداء طقوسهم الدينية فيه.
راهنت الحكومة الإسرائيلية على أن «التسهيلات» التي قدمتها للفلسطينيين في الضفة وغزة، ستسمح لها بتجنّب انخراط قطاع غزة في المواجهات الجارية في الضفة، وبأن الوسطاء والعرب، وفي مقدمتهم مصر، قد يساعدون في منع وقوع الانفجار الشامل.
الفصائل في غزة أعلنت الاستنفار، ولكنها منحت الأشقاء في مصر فرصة كي تضغط على إسرائيل لإقناعها بالتوقف عن مخططاتها التهويدية للقدس والمسجد الأقصى، ولكن أمام تعنت واستمرار إسرائيل في مخططاتها كان لا بد من رسالة ساخنة.
الرسالة التي أرسلتها الفصائل في غزة، كانت عبارة عن إطلاق صاروخ على غلاف غزة، ردت عليه إسرائيل بقصف استعراضي شكلي، من باب إخفاء مخاوفها من دخول الفصائل على خط المواجهة الساخنة.
لم يكن في وارد فصائل المقاومة أن ترد على القصف الإسرائيلي، أو المبادرة لتفجير الوضع، التزاماً بوعودها للأشقاء في مصر. لكن الأمور ما كانت لتستمر طويلاً على هذا النحو، فيما لو تمادت إسرائيل في فرض مخططاتها.
القيادة الفلسطينية كانت هي الأخرى ستعقد اجتماعاً مهماً لها، مساء الأحد، وفي النية وضع قرارات المجلس المركزي على طاولة التنفيذ. لكنها أجّلت الجلسة، حتى تعطي فرصة للتفاعلات العربية والدولية، وحتى لا تبدو على أنها المسؤولة عن تفجير الأوضاع.
تحت ضغط عربي ودولي واسع، أعلنت الحكومة الإسرائيلية عن وقف مسلسل الاقتحامات للمسجد الأقصى، ابتداءً من يوم الجمعة القادمة حتى نهاية شهر رمضان، وإلى ذلك الحين سيظل المشهد متوتراً، حتى لا تظهر الحكومة الإسرائيلية وكأنها انصاعت لتهديدات فصائل المقاومة، وكذا تهديدات السلطة الوطنية.
وخلال هذه الفترة، أيضاً، وقبل وصول الوفد الأميركي للمنطقة والذي سيجري مفاوضات مع الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي من أجل ضمان التهدئة، رفضت الحكومة الإسرائيلية السماح بتأمين الحماية لمسيرة الأعلام التي تزمع القيام بها جماعات متطرفة، اليوم (امس).
رد الفعل الأميركي الذي طالب بالهدوء والحفاظ على الوضع التاريخي للقدس والأماكن المقدسة، يثبت مرة أخرى أن الولايات المتحدة تتحمل مسؤولية أساسية إزاء حماية المخططات العدوانية الإسرائيلية، والأرجح أن حكومة بينيت ما كانت لتتراجع مؤقتاً، لو أن كل الدنيا اجتمعت، وأصدرت بيانات شجب واستنكار، دون أن تكون الولايات المتحدة متحمّسة أو مهتمة بالضغط على إسرائيل.
من المرجّح أن ترتفع خطابات العنجهية والادعاء بامتلاك القدرة من قبل أركان الحكومة الإسرائيلية حتى لا تبدو ضعيفة أمام المتربّصين بها من الداخل الإسرائيلي.
سمعنا وقرأنا تصريحات وزير الجيش بني غانتس، لكنها لا تستطيع إخفاء مخاوف الحكومة من وقوع الانفجار الشامل، الذي من المرجّح في حال وقوعه أن يؤدي إلى انهيار الحكومة، كما انهارت الحكومة التي سبقتها إثر العدوان الإسرائيلي على غزة في أيار العام الماضي.
في الوقت متّسع، لملاحظة التناقضات التي ستظهر في الحياة السياسية الإسرائيلية خلال هذه الأيام القليلة، حيث ستصطدم بالمعارضة أولاً، ثم مع الجماعات المتطرفة التي لن تتوقف عن القيام باستفزازات خطيرة في القدس.
إزاء ذلك، لا ينبغي المراهنة على توقّف الاستفزازات الإسرائيلية الرسمية، حيث يمكن أن تغطي فشلها، بتصعيد اقتحاماتها وهجماتها على القرى والمدن الفلسطينية، وحيث يمكن أن تعود جنين ونابلس إلى واجهة الأحداث، مع أنها لم تغب خلال أيام التصعيد الخطير في القدس.
لأهل القدس، والداخل الفلسطيني، والشعب الفلسطيني في الضفة وغزة كل التحية، بعد هذه الوقفة الشاملة والمتحدّية للاحتلال ومخططاته ومستوطنيه.
لقد أثبتت الأحداث أن الشعب الفلسطيني وقواه السياسية موحّد، في مواجهة الاحتلال وقطعان مستوطنيه، غير أن الثغرة الكبيرة لا تزال تكمن في استمرار الانقسام السياسي، الذي يضعف من قدرة الشعب على مواصلة الصمود والتحدّي.
إذا لم ينفع الفلسطينيون أنفسهم، فلا الوضع العربي المعروف بأمراضه ولا المجتمع الدولي المتواطئ يمكن أن يوقف آلة التطرف والعنصرية الإسرائيلية، الساعية نحو التوسع، والتوسع في قمع الفلسطينيين وسرقة أرضهم ومصادرة حقوقهم الوطنية العامة وحتى الفردية.