القدس.. برميل البارود الذي ينتظر دوماً عود الثقاب
التصعيد في القدس يطرح تساؤلاً كبيراً تساعد إجابتُه في فهم الحريق المشتعل في القدس التي باتت في الآونة الأخيرة خبراً يومياً رئيسياً على وسائل الإعلام، مرةً عن بناء مستوطنة، ومرة عن طرد عائلات، وأخرى عن دخول المتطرفين اليهود الى باحات المسجد الأقصى واندلاع معارك تبدأ عادة من هناك، ولكن امتداداتها تطال كبرى العواصم.
قبل أكثر من عقدين دخل أرئيل شارون رئيس المعارضة الإسرائيلية آنذاك باحات الحرم ليجر معه الشعبين الى بحر من الدم لم يتوقف، وأطاح بكل محاولات التسوية التي تبخرت من قوة النيران المتبادلة بين الطرفين، وقبل عام سمحت الحكومة الإسرائيلية بمسيرة الأعلام وسط مناخات التصعيد وطرد العائلات لتنتهي بحرب امتدت في كل المناطق، وذهبت أبعد نحو عواصم عالمية ارتجت على وقع الحرب.
السؤال: هل تعرف اسرائيل وهي تصنع مناخات العنف ماذا تفعل؟ وهل ما تفعله هو عمل منظم في سياق مدروس؟ أم أن الأمور تتدحرج في إطار مزاودات بين يمين متطرف في المعارضة ويمين أكثر تطرفاً على رأس السلطة؟ وللحقيقة بات استقرار المنطقة والفلسطينيون أسيرَين لهذين اليمينيَّين اللذين باتا يتنافسان على أيهما أكثر تطرفاً.
من يعرف إسرائيل وكيف تعمل كمؤسسة يدرك أن الأمور ليست مجموعة مصادفات، بقدر ما أن السياسات هي نتاج مراكز دراسات تضع تصوراتها، وأن دور الحكومات فيها ليس أكثر من جهات تنفيذ مشاريع تتجاوز مدة المشروع عمر الحكومات نفسها. وكثيراً ما تأكد ذلك عندما قال بعضهم كلاماً خلال الدعاية الانتخابية، وبعد الوصول للسلطة فعل العكس، شارون كان يعتبر أن مستوطنة نتساريم مثل تل أبيب، لكن في اطار مشروع فصل غزة المخطط منذ ثمانينات القرن الماضي وعندما وصل للحكم كان هو نفسه من ينفذ الانسحاب من نتساريم. والمثال الآخر نفتالي بينيت وأفيغدور ليبرمان عندما كانا في المعارضة كانا يهاجمان نتنياهو لأنه يسمح بدخول الأموال لحركة حماس، لكن عندما شكلا الحكومة الأخيرة واصلا نقل الأموال لحركة حماس.
وبالمقابل من يلاحظ حالة الفوضى السياسية والدبلوماسية والانتقادات التي توجه لإسرائيل يظن أن الأمر هو مجموعة سياسات عشوائية ناتجة عن صراع هواة السياسة وطامعيها، وخصوصاً أن تلك الدولة فوتت ما يكفي من الفرص التي كان يمكن أن تعفيها من كل هذا، خاصةً أن المسار لا يسير في صالحها على المدى البعيد خصوصاً فيما يتعلق بالعلاقات الخارجية وصورة إسرائيل التي بدأت تهتز حتى في واشنطن نفسها، أي أن الجدار الذي شكل ضمانة استمرار تفوق إسرائيل بدأ يتصدع، ولم يكن تقرير أمنستي الذي وصفها بالأبرتهايد سوى انذار أو مقدمة لرأي عام آخذ بالتشكل. فكيف لدولة المؤسسات أن تصل لهذا المستوى في حين كان لديها ما يكفي من الفرص لتسوية تضمن استمرار هذا التفوق، وأن تكون دولة طبيعية في المنطقة لا محاولات أن تكون طبيعية بشكل صناعي كما يحدث.
كان رابين يقول إن القدس لن تقسم، وبالتالي لا فرق بين يمين ويسار في السياسة عندما يتعلق الأمر بالمدينة وما بين رابين ونتنياهو الذي كان أكثرهم صراحة وهو يعلن مشروعه أو مشروع الدولة عبر وكيله الأميركي دونالد ترامب بأن القدس عاصمة لإسرائيل. هذا هو بيت القصيد ومحل الإجماع وبالتالي ما يحدث في القدس من سلوك يبدو متناثراً، ولكن حين تركيب اللوحة والتدقيق في فرض الحقائق، هناك ما يشي بأن إسرائيل لم تعد ترى بالفلسطينيين شعباً يمكن التفاهم معه أو إعطاؤه أو حتى الأخذ منه من خلال اتفاق، فكل شيء سيسير بكل ما امتلكت الدولة من قوة.
ولكن التجربة الطويلة تقول أن القدس برميل البارود الذي كلما انفجر تفجرت معه المنطقة، وكم كان معبراً العام الماضي عندما استفزت مسيرة الاعلام الشعب الفلسطيني في القدس والضفة وغزة وحتى مناطق الداخل التي كانت جماهيرها تندفع للشوارع بلا حساب، ما يعني أن الأمر ليس بتلك السهولة على اسرائيل، كأن القدس هي روح الفلسطينيين التي تحدث ارتجاجة كبيرة للأطراف كلما شعرت بالضيق. ولا يتوقف الأمر عند الشعب الفلسطيني بل وأيضاً الشعوب العربية ومؤسساتها الرسمية حتى التي تربطها بإسرائيل علاقات سلام. ومن لاحظ الموقف الأردني ممثلاً برئيس وزرائه الذي تلقى انتقاداً من إسرائيل أو موقف الأزهر الشريف بمصر يدرك أن المشروع الإسرائيلي بالقدس في حالة تصادم يمكن اذا ذهب أبعد فإنه سيقلص إنجازات إسرائيل في المنطقة.
وما بين طمع إسرائيل ورغبتها بالاستيلاء بالقوة وبسرعة وسط انشغال العالم وفرض حقائق وما بين تراجعها تجعلها تقف في المنتصف، فالتقدم يجر خسائر ليس فقط ميدانية وأمنية كما رأينا طالت مدن الداخل بل سياسية ودبلوماسية تعمل بالتراكم على تحويلها لدولة منبوذة. والتراجع يعني انكسار المشروع هي لا ترغب بالحلول الوسط مع الفلسطينيين، وبالتالي تبدو عالقة وتعلق معها الفلسطينيين الذين يقفون متحفزين حين يتعلق الأمر بالقدس، فالرد العنيف مكلف وصعب والصمت والتسليم أكثر صعوبة، وهكذا فإن اليمين الذي أقسم على تدمير الحل يعلق المنطقة كلها وفي كل مرة يلقي بعود الثقاب، وكل مرة يتسع الحريق. وهذه المرة كانت بكين شرقاً وواشنطن تبديان القلق من هذا العبث الإسرائيلي لأنهما تدركان ما لم تدركه إسرائيل بعد بأن القدس هي الروح التي تحرك الفلسطينيين إلى حد الجنون...!!!!