هل تغيرت استراتيجية روسيا في أوكرانيا؟
منذ بداية الحرب على أوكرانيا في الرابع والعشرين من شباط الماضي، والقوات الروسية تواصل هجومها باستحداث محاور قتالية لاستعجال السيطرة على أهم المدن في شمال وشرق وغرب أوكرانيا، وكذلك في جبهة بحر آزوف الذي يشهد قصفاً عنيفاً على ماريوبول ومجمع آزوفستال الصناعي.
لم تكن موسكو تتوقع أن تصمد كييف إلى هذه اللحظة أمام ثاني أقوى دولة في العالم، غير أن الدعم العسكري الأميركي ومعه حلف الناتو أطال من أمد هذه الحرب، لمنع تحقيق أي انتصار روسي وكذلك من أجل إضعاف موسكو واستنزافها اقتصادياً وعسكرياً.
الحرب الدائرة حالياً هي ليست بين روسيا وأوكرانيا فقط، وإنما بين معسكرين، الأول تقوده موسكو وروسيا البيضاء والشيشان، والمعسكر الآخر تقوده الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا الغربية وتشكل أوكرانيا مسرحاً لهذه الحرب التي تدمرها شيئاً فشيئاً.
حتى هذه اللحظة دمرت القوات الروسية حوالي 30% من البنية التحتية الأوكرانية، في وقت تتكثف فيه عملياتها العسكرية في إقليم دونباس، إذ سيطرت تقريباً على لوغانسك وأكثر من نصف مساحة دونيتسك باتجاه ميناء ماريوبول في بحر آزوف الذي بات مطوقاً بالكامل من قبل القوات الروسية.
من غير الوارد أن تبقى القوات الروسية لفترة طويلة في أوكرانيا، خصوصاً مع حجم العقوبات الغربية التي تفرضها عليها، فضلاً عن كلف تمويل الحرب التي تكلف الخزانة الروسية الكثير من الأموال، وفي مقابل ذلك ثمة صعوبات في مسألة حسم المعركة بالوقت القريب انطلاقاً من الدعم الغربي المتواصل للقوات الأوكرانية لإطالة عمر صمودها.
في هذا السياق قد تتغير الحسابات الروسية في ضوء إخفاق السيطرة على كييف، ومع الخسائر اليومية التي تتكبدها القوات الروسية، ولذلك يفهم من إعادة تمركزها وتكثيفها للقتال في إقليم دونباس على أنه بداية نهاية الحرب، لكن في إطار حسم هذا الإقليم لصالح موسكو.
لقد كان الهدف الأساس للرئيس الروسي بوتين من وراء الحرب على أوكرانيا، هو تخويف حلف الناتو من فكرة التمدد العسكري إلى الحدود الروسية بضم كييف إليه، وجعل الأخيرة الحديقة الخلفية لموسكو كما حصل في السنوات السابقة، لكن لم يتمكن الرئيس الروسي من تغيير النظام الأوكراني، لكنه أربك أوروبا حول مسألة تفهم احتياجات روسيا الأمنية.
الآن يفهم بوتين أن إطالة العملية العسكرية ستعني تحول أي مكاسب تحققها قواته إلى خسارة على المستوى البعيد، إذ كلما تطول الحرب في أوكرانيا سيعني ذلك فرض المزيد من العقوبات الاقتصادية على موسكو، وكذلك تدهور في الاقتصاد الروسي الذي يصل ناتجه الإجمالي السنوي إلى حوالي 1.5 تريليون دولار حسب تقديرات البنك الدولي لعام 2021.
بالتأكيد خسرت موسكو عشرات المليارات من الدولارات يومياً في حربها ضد أوكرانيا، وهي خسارة يضاف إليها مشكلات تصدير منتوجاتها الصناعية والزراعية والأهم معوقات تصدير النفط والغاز بالعملة المحلية للدول «غير الصديقة».
الآن ماذا يخطط بوتين للخروج من هذه الورطة؟ ثمة سيناريوهان مرتبطان بالحرب على أوكرانيا قد يتحقق واحد منهما بالنظر إلى مجريات الأحداث. الأول أن يدعو الرئيس الروسي قواته لتسريع العمليات العسكرية في شرق وجنوب أوكرانيا للسيطرة الكاملة على إقليم دونباس وضمها وتشكيل حزام أمني من جهة شرق أوكرانيا وحتى شبه جزيرة القرم في الجنوب.
السيناريو الأول قد يعني بالنسبة لبوتين إنهاء الحرب أواخر الشهر الجاري أو مطلع الشهر المقبل، بضمان السيطرة على مناطق جغرافية تقع شمال أوكرانيا وغرب إقليم دونباس كنوع من أنواع تحقيق الانتصار، وبالتالي التفاوض بشأنها مع كييف بعد انتهاء الحرب.
السيناريو الثاني يتعلق بحرق الأخضر واليابس في المناطق المحاذية لإقليم دونباس من غربه وجنوبه، وتطهيره من القوات الأوكرانية ووضع اليد على مدينة ماريوبول التي تقع في الجزء الجنوبي الشرقي لأوكرانيا، والتفاوض حول إمكانية التنازل عنها مقابل استقلال إقليم دونباس.
بعد كل الخسائر التي منيت بها موسكو في أوكرانيا والحصار والحرب الاقتصادية الدولية التي تشن ضدها، من الصعب القول إن بوتين سيخرج من كييف «بخفي حنين»، وأغلب الظن أن يختصر الرئيس طموحاته بالسيطرة الكاملة على إقليم دونباس والتفاوض مع أوكرانيا حول ضمان حيادها في مسألة الانضمام إلى حلف الناتو.
يلحظ هنا أن الأولويات الروسية تغيرت بعد أكثر من 55 يوماً على الحرب في أوكرانيا، إذ لم تعد القوات الروسية تريد السيطرة على كييف، ويجري حالياً تعزيز وجودها في الحدود التي تفصلها عن أوكرانيا في الشمال والشرق، وهذا ربما يعني أن بوتين اختصر تحقيق انتصار كبير في الحرب بحسم سريع يحقق له مكاسب حتى لو كانت قليلة.