هل يربح بوتين الدونباس ويخسر روسيا؟
دخلت الحرب الروسية في أوكرانيا وعليها يومها الخمسين لحظة كتابة هذه السطور، وهي مناسبة للوقوف عند مجرياتها وأداء الأطراف المنخرطة فيها، والنظر في سيرورتها ومآلاتها، فكيف جاءت النتائج الأولية لأخطر أزمة عالمية منذ الحرب الكونية الثانية، وأين تقف موسكو من الأهداف المعلنة لهذه الحرب؟
منذ أن اجتازت أول دبابة روسية الحدود مع أوكرانيا، وضع الكرملين أهداف الحرب من ضمن مستويين اثنين: الأول، كوني، ويتلخص بوقف تمدد «الأطلسي» شرقاً بما يشبه «حرب التطويق» لروسيا الاتحادية، وإعادة ترسيم قواعد النظام العالمي الجديد، بما هيمنة القطب الواحد. والثاني، قومي، ويتعلق بمستقبل أقاليم أوكرانية، تعتقد موسكو أنها «مقتطعة» من أراضيها، وتقطنها غالبية من شعبها والناطقين بلغتها، والحديث هنا يدور حصراً حول القرم وإقليم دونباس حصراً.
الحرب الخاطفة، والحسم السريع، وتكتيك «أقصى الضغوط» على كييف ومدن أوكرانيا الرئيسة، والاستخدام الاستعراضي لأحدث أنواع الصواريخ الذكية، بعيدة المدى، كانت من ضمن مفردات التكتيك العسكري الروسي، الذي أريد به فرض الاستسلام الكامل على أوكرانيا وتغيير قيادتها، وتدبير انقلاب عسكري عليها، ووضع العالم أمام حقائق جديدة، مفروضة بقوة الأمر الواقع.
في المقابل، رأت واشنطن في الحرب تحدياً يمكن تحويله إلى فرصة، لتسوية الحساب مع روسيا وقتالها حتى آخر أوكراني، بالاعتماد على تكتيك «إطالة أمد الحرب» ورفع كلفها، ميدانياً وباللجوء إلى عقوبات لم يشهد التاريخ مثيلاً لها، وبهدف معلن: منع سقوط أوكرانيا وتحويلها إلى «مستنقع» للجيش الروسي، وإعادة موسكو إلى مرحلة ما قبل بوتين، وتبديد مكتسباتها الاقتصادية والجيوإستراتيجية، واستنقاذ نظام «القطب الواحد»، وإحياء «الناتو» بعد ما ألم به من انقسام وتباعد بين ضفتَي الأطلسي.
لم يكن بوتين وحده من أخطأ الحساب والتقدير، واشنطن ولندن وبروكسل وقعت في الخطأ ذاته. بوتين راهن على انهيار «القومية الأوكرانية الهشة»، وانهيار قيادة «المهرج» في كييف في غضون أيام قلائل، إما برفع الراية البيضاء، أو بالبحث عن «ملاذ آمن» له ولعائلته ومقربيه. لكن الغرب لم يكن بعيداً عن هذا التقدير، أقله في الأسبوع الأول للحرب، وإلا لما كان عرض على زيلينسكي لجوءاً «محترماً» في عواصمه، وعمليات «إنقاذ» له ولعائلته، وفي أحسن تقدير، العمل من وارسو المجاورة، على رأس «حكومة منفى».
أسقطت أوكرانيا هذه الرهانات، الصديقة والمعادية، و»الكوميديان» تحوّل إلى «بطل قومي»، تتبارى برلمانات العالم لاستضافته والحديث أمامها بكامل هيئاتها. والقوميون الأوكرانيون الذين تصفهم موسكو بـ»النازيين الجدد» كانوا الأشد صلابة في مقاومة الزحف الروسي، والشعب الأوكراني لم ينتفض على قيادته، وجيشه وجنرالاته، لم يستجيبوا لنداء بوتين بتدبير انقلاب أبيض أو أحمر. كل هذه الرهانات تبددت في الأسبوع الأول، وبدا أنه سيتعين على روسيا تغيير إستراتيجيتها القتالية، وعلى الغرب أن يعيد النظر في مقارباته. أوكرانيا هي من فرض هذه التحولات على الحلفاء والأعداء سواء بسواء.
لم تعد المسألة الأوكرانية تتعلق بمشروعية الحرب وأهدافها، ولا بالنوايا الكامنة وراء مواقف الأفرقاء. كثيرون في منطقتنا بشكل خاص، تعاطفوا مع «الرواية الروسية»، فلديهم حسابات لم تغلق مع الغرب، ممتدة من العصر الكولونيالي حتى يومنا هذا، ولديهم إلى جانب ذلك، سجل لا ينتهي من «المظلوميات» الناشئة من رحم «المعايير المزدوجة» والإخلال بـ»التعهدات» والالتزامات الغربية والأميركية. الحرب من الزاوية الأوكرانية المحضة، باتت «حرباً وطنية كبرى»، وإن دارت رحاها في قلب صراع عالمي حول السلطة والنفوذ وقواعد النظام العالمي الجديد.
فقد الهجوم العسكري الروسي الواسع زخمه بعد اليوم الثالث للحرب، وبدا أن كييف قد التقطت أنفاسها واستعادت زمام المبادرة، وكان موقفها يتعزز يوماً إثر آخر، مع كل «شحنة» جديدة من السلاح المتطور المضاد للدبابات والطائرات، ومع كل دفعة من «المقاتلين الأجانب»، ومع كل «صفقة» دعم وتمويل كانت تنهمر عليها بغزارة من خزائن «العالم الأول»، حتى أن وزير ماليتها لم يعد يرى ضرورة لإعادة جدولة ديون بلاده، فقد وصلها من أموال الداعمين، ما يكفي للوفاء بالتزاماتها ويفيض.
انقلبت قواعد اللعبة، وأخذت روسيا في إعادة نشر قواتها، انسحبت من حول العاصمة والمدن الكبرى في الغرب والشمال، وتمركزت في الشرق والجنوب، قلصت أهدافها وهبطت بسقف مطالبها. وستكون أولويتها الأولى في الخمسين يوماً التالية للحرب، تثبيت انتشارها في الدونباس.
وبدل أن «تستبشر» موسكو بإعلان كييف استعدادها للتموضع في موقع «الحياد» بين المعسكرين، بكل مندرجات هذا الموقع ومتطلباته، وجدت نفسها أمام موجة زحف جديد للناتو على مقربة من حدودها. فنلندا والسويد، تقرران مغادرة موقع الحياد إلى خندق «الناتو»، وبصورة تنذر بتحول البلطيق إلى بحيرة أطلسية، لن تنفع معها تهديدات وزارة الدفاع الروسية بنشر أسلحة نووية في البحر الخالي منها، فالسلاح النووي الإستراتيجي، في ظل توازنات القوى الدولية، ليس له من وظيفة غير «الردع» و»التهويش»، أما استخدامه، فمحظور، ما لم تقرر الأطراف انتحاراً جماعياً.
لم تكسب موسكو «حياد» أوكرانيا، فهذه النتيجة ليست محسومة بعد، وما بدا أن الوفد الأوكراني المفاوض في بيلاروسيا وتركيا، على استعداد لتقديمه، لم يعد كذلك بعد أسابيع من «انقلاب المشهد» على الأرض، ولافروف نفسه، قال: إن الوفد التفاوضي الأوكراني تراجع عمّا كان قد قبل به، ووزير خارجية كييف يقول: إن المواقف على مائدة التفاوض، تقررها موازين القوى المتحركة على الأرض، والمسألة هنا مفتوحة على احتمالات شتى، لكن المؤكد أن روسيا خسرت «حياد» فنلندا والسويد. النتيجة بالنسبة لروسيا اليوم، أسوأ مما كانت عليه قبل بدء الحرب.
أما النظام العالمي الجديد الذي أرادت روسيا لـ»عمليتها العسكرية الخاصة» أن تكون بمثابة «القابلة القانونية» التي تعمل على استيلاده، فما زال في عالم الغيب، والأرجح أن عناصر القوة والاقتدار الاقتصادية هي التي ستقرر شكله وترسم ملامحه، وليس القوة العسكرية وحدها. روسيا التي تقع خارج نادي العشر الكبار اقتصادياً اليوم، قد تجد نفسها، خارج نادي العشرين الكبار بعد سنوات، إن استمر نظام الحصار والعقوبات، على الرغم من عظم مواردها الطبيعية وامتداد حدودها على ثُمن المساحة المأهولة بالسكان من الكرة الأرضية.
الأيام المقبلة، ستشهد كثافة في العمليات العسكرية في الشرق والجنوب، روسيا تريد بسط سيطرتها على إقليم دونباس، وقد يكون لها ذلك، بعد أن أعادت نشر قواتها فيه وعلى مقربة منه، وقد تجعل من أرض الإقليم، مقبرة لعشرات ألوف المقاتلين الأوكرانيين، وهي تراهن على تحويلهم إلى ورقة ضاغطة هائلة على كييف للقبول بشروطها، أو ببعضها على الأقل. لكن كييف، وبدفع من واشنطن ولندن والغرب عموماً، عرفت كيف تضغط على الكرملين، فالسلاح النوعي ينهال على أوكرانيا، والحرب طويلة الأمد أثبتت نجاعتها، والاستنزاف سيستمر، وربما يجري التفكير بنقل المعارك إلى الداخل الروسي، في استعادة موسعة للتجربة اليمنية، حيث نجح الحوثي على «عزلته» وضعف موارده، في نقل الحرب إلى العمقين السعودي والإماراتي، الصورة مختلفة في أوكرانيا التي تقف أكبر دول الغرب الصناعي خلفها، وقفة لم يكن أحد يتخيلها قبل شهرين فقط.
التحدي الأكبر الذي سيواجه الكرملين، بعد أن خسر معركة وقف تمدد «الناتو» شرقاً، إنما يتمثل في مصير الدونباس، وسط مخاوف من تحول الإقليم إلى سبب أو «ذريعة»، لإطالة أمد الاستنزاف بالحرب والعقوبات، فتكون النتيجة «ربح الدونباس وخسارة روسيا».