ولنا في الحروب مصائب
ثمة أزمة كبيرة في ارتفاع أسعار المحروقات والغذاء على المستوى الدولي بسبب الحرب التي تشنها روسيا على أوكرانيا منذ أكثر من شهرين، في الوقت الذي يتباطأ فيه النمو العالمي، وسط مخاوف من انعكاسات سلبية على الدول العربية التي تستورد الكثير من السلع الأساسية من الخارج.
الحرب الجارية الآن في أوكرانيا أربكت العديد من اقتصادات الدول التي تعتمد على الموارد النفطية والغذائية من موسكو وكييف، لكن ليس هذا السبب وحده الذي رفع أسعار المحروقات والسلع التموينية، وإنما ثمة عوامل أخرى أسهمت في ارتفاع موجة الأسعار إلى درجة غير مسبوقة.
لقد دفع تفشي فيروس «كورونا» منذ أوائل العام 2020 على مستوى العالم بغالبية الدول لإغلاق حدودها بهدف السيطرة على الوباء، الأمر الذي أثقل كاهل الاقتصاد العالمي الذي شهد تخبطاً في مختلف أسعار السلع الرئيسة وغير الرئيسة، تبعه ربكة كبيرة في سلاسل الإمداد والتوريد.
غير أن العالم حينما بدأ يتشافى من الآثار الكارثية التي خلفها «كوفيد 19»، جاءت الحرب الروسية على أوكرانيا لتعيد وضع الاقتصاد العالمي مرةً أخرى في «بوز المدفع»، ويحدث أن تدفع الدول العربية ثمن التشاحن بين الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا الغربية وأوكرانيا من جهة، وروسيا من جهة أخرى.
في الأساس شهدت الأسواق العالمية ارتفاعاً في أسعار السلع والمواد الغذائية والتموينية بسبب ارتفاع أسعار المشتقات البترولية على خلفية الحرب الحالية، إضافةً إلى خلل عدم توفر العمالة الكافية نتيجة آثار فيروس «كورونا» وسياسات الإغلاق المتكررة التي شهدتها مختلف الدول، وإغلاق بعض المصانع والمشروعات الصغيرة والمتوسطة التي تأثرت بشدة بسبب هذا الوباء العالمي.
ثم جاء ارتفاع آخر بفعل تداعيات الحرب ومعوقات التصدير، لكن أكثر من تأثر من هذه الحرب هي الدول العربية التي تعتبر اقتصاداتها هشة وتستهلك أزيد مما تصدر، حيث تستورد أكثر من نصف احتياجاتها من الحبوب من روسيا وأوكرانيا تحديداً.
تعتبر مصر أكبر مستورد للقمح على مستوى العالم بحوالى 12.1 مليون طن، وتصنف الجزائر الرابعة عالمياً باستيراد 7.7 مليون طن من القمح سنوياً، حسب موقع «وورلد توب إكسبورتس» المتتبع لأخبار الصادرات العالمية. بجانب المغرب والعراق واليمن والقائمة طويلة.
تقرير أميركي آخر صادر عن وزارة الزراعة الأميركية ذكر أن 9 دول عربية تستورد نحو 40.2 مليون طن من القمح، أي حوالى 21.9% من واردات القمح على مستوى العالم وأغلبها من روسيا وأوكرانيا لانخفاض سعره هناك. هذا ناهيك عن استيراد الكثير من المواد التموينية الأخرى من اللحوم والدواجن والزيوت المهدرجة.
هذه السلع التي شهدت قفزات هائلة في ارتفاع أسعارها وتأثرت بتقلبات أسعار النفط وخطوط الإمداد والتوريد، يتحمل فاتورتها المستهلك الذي لا حول له ولا قوة، حيث إنه يقع فريسة القرارات والسياسات الاقتصادية غير الرشيدة، وكذلك يقع فريسة تلاعب التجار بالسوق، وبالتالي هو وحده من يتحمل دائماً أي نفقات مضافة.
لقد كشف فيروس «كورونا» ضعف وهشاشة الاقتصادات العربية، وكذلك فعلت وتفعل الحرب الروسية على أوكرانيا، وحيثما تحصل حرب في أي بلد آخر، تتأثر الدول العربية وترتبك اقتصاداتها النامية، وفي النهاية تحل الكارثة على المواطن العربي الذي يتحمل وحده فاتورة هذا الغلاء.
الطامة الكبرى أن الوطن العربي يزخر بالثروات الطبيعية والمعدنية وغير المعدنية، لكنه لا يستغلها على أكمل وجه، ولو حدث ذلك لما كنا نعتمد على الغرب ولا حتى تأثرت الاقتصادات والأسواق العربية بأي زلازل سياسية أو اقتصادية على المحيطين الإقليمي والدولي.
على سبيل المثال تصنف السعودية والعراق من الدول الأكثر ثراءً بالموارد الطبيعية في العالم، وتحتل السعودية المرتبة الثالثة من بين أغنى 10 دول بالموارد الطبيعية بقيمة مقدرة تصل إلى 34.4 تريليون دولار، وكذلك تقع العراق في المرتبة التاسعة بقيمة مقدرة تبلغ حوالى 16 تريليون دولار.
مع الأسف الشديد الإرادة غير متوفرة لدى الكثير من الحكومات العربية للفكاك من التبعية السياسية والاقتصادية للدول الكبرى، والاستثمار في دول شقيقة قادرة على سد حاجات الأسواق المحلية والبينية. يخطر على البال السودان التي تصنف بأنها سلة غذاء الوطن العربي.
لكن ماذا يحدث؟ يحدث أن تستثمر بعض الدول العربية في قطاعات قد تكون ضرورية وغير ضرورية، أو أن يستثمر «هوامير» رؤوس الأموال في شراء ممتلكات وعقارات خارج الإطار الجغرافي العربي، وهذا مرتبط بمصالحهم وقد يكون ظاهرة صحية. لكن في المقابل هناك قرارات غير حكيمة لا تخدم المصالح الاستراتيجية لاقتصادات هذه الدول ولا للمواطن العربي.
عودة إلى السودان مرةً أخرى، إذ إن هذا البلد العربي مكتنز بخيرات كثيرة ويمكن الاستثمار فيه وتحويله إلى أهم الدول المنتجة للثروتين الزراعية والحيوانية، وتحقيق الاكتفاء الذاتي وبالتالي تحقيق الأمن الغذائي، بدلاً من الاستيراد من الخارج والانشغال في تكاليف النقل المرهقة.
ما حدث بفعل «كورونا» والحروب المتكررة هي عِبَر ورسائل توجب منا نحن العرب التفكير المنطقي في تحقيق مصالحنا وجعل المواطن في سلم أولويات الحكومات العربية، ذلك أن الارتكان لإرادة الغرب في التبعية السياسية والاقتصادية يفقر العديد من الدول العربية شيئاً فشيئاً، والأهم أن المواطن هو ضحية هذا الفقر.