هل تتنمَّر أوروبا على فلسطين؟
مقالات

هل تتنمَّر أوروبا على فلسطين؟

لم أجد تعبيراً يعكس واقع الحال، واقع المواقف، أو الموقف الأوروبي من مسألة المناهج الفلسطينية أصحّ أو أدقّ من تعبير التنمُّر.
أولاً وقبل كل شيء، وبصرف النظر عن تناقض أو تعارض، أو حتى تضارب المواقف الأوروبية حيال مسألة المناهج، وكذلك ضبابية التصريحات الفلسطينية الرسمية التي تحاول جاهدةً «غمغمة» هذه المواقف الأوروبية، حيث لا نعرف بالضبط، بصورة جليّة وحاسمة فيما إذا بتنا أمام اشتراطات إلزامية تطرحها أوروبا، أم أن المسألة لم تصل إلى هذا الحدّ بعد.. بصرف النظر عن كل ذلك فإن واقع الحال يقول إن فلسطين تتعرّض لحالة تنمُّر غير مسبوقة.
تحاول أوروبا أن تتستّر خلف «إلزامية» قرار الإجماع الذي هو شرط من الشروط المنظمة، وقاعدة من قواعد العمل الأوروبي المشترك في «تبرير وتفسير» حالة التنمُّر الحقيقية التي نحن أمامها، وذلك بالتذرّع بالموقف «الهنغاري» الذي «ضغط» باتجاه ربط موافقته باستجابة فلسطين «لمتطلبات» تتعلّق بما تتضمنه المناهج المدرسية الفلسطينية من مسائل وموضوعات تنطوي على «بثّ وإشاعة» الكراهية، والتحريض على العنف، والترويج لأفكار من شأنها «إنكار» [الحقوق] اليهودية أو الإسرائيلية.. هذا إضافةً إلى اتهام المناهج الفلسطينية «بتبجيل» بعض رموز العمليات الفدائية.
وحسب بعض المواقف «المجرية»، ومن خلفها بعض المواقف «الأوروبية»، فإن استمرار دفع مخصصات الشهداء والأسرى «يحتّم» اتخاذ مواقف أوروبية «حاسمة» لما ينطوي عليه الأمر من «تشجيع» للإرهاب أو للعمليات الإرهابية؟!
لدى التدقيق في مجمل هذه الملاحظات، وهي بالمناسبة ملاحظات يعود بعضها إلى العام 2002، في حين أن البعض الآخر تجدّد واستجدّ في عهد نتنياهو الطويل.. لدى التدقيق فيها بالمجمل أو بالتفاصيل تنطلق وجهة النظر «الأوروبية» من إنكار لحق الشعب الفلسطيني في مقاومة الاحتلال حسب التعبير القانوني الرسمي في وصف حالة الأرض الفلسطينية التي تخضع لاحتلال عسكري مباشر.
إذ أنه لا تفرق «أوروبا» ـ على سبيل المثال ـ بين من يتصدّى لقوات الاحتلال ومستوطنيه وبين بعض الأعمال التي تستهدف «مدنيين» إسرائيليين بصورة هادفة وقصدية، ما يعني في المحصّلة أن كل شكل من أشكال المقاومة لهذا الاحتلال (ولا يوجد في الواقع أي مسمّى آخر سوى مسمّى الاحتلال في القانون الدولي) سيصنّف في دائرة الأعمال «الإرهابية»، بما في ذلك عشرات ومئات الشهداء الفلسطينيين الذين سقطوا في مواجهة الاحتلال بالمقاومة الشعبية السلمية التي لا يختلف اثنان عاقلان على كونها حقا مصانا ومشروعا باستثناء إسرائيل والولايات المتحدة، ودولة ميكرونيزيا والآن الدولة المجرية.
ألا يعني ذلك في واقع الحال أن «أوروبا» الديمقراطية! في حالة إن انتهت الأمور بمواقفها من مسألة المناهج قد باتت تتبنّى مواقف إسرائيل، وأن المواقف الأوروبية في محصّلتها النهائية (ونحن هنا نتحدث دائماً عن المواقف الأوروبية الرسمية) هي نسخة خشنة أو ناعمة عن المفاهيم والمقولات والادعاءات والدعاية الإسرائيلية؟
لو أن الموقف أو المواقف الأوروبية التي ما زالت غامضة حتى الآن، وليس لدينا منها موقف نهائي ورسمي وموثّق بعد، كما أنه ليس لدى أوروبا موقف رسمي بعد.. لو أن هذه المواقف تأتي في سياق نبذ العنف في المناهج الفلسطينية كما في المناهج الإسرائيلية، وبما يشمل التعليم الرسمي وغير الرسمي، بما في ذلك التعليم الديني، وبما يعكس التصريحات الرسمية حيال هذا الأمر من وزراء التربية والتعليم على الجانبين.. لو كان الموقف الأوروبي يتصلّ بأسس التسامح وثقافة السلام على الجانبين، أيضاً، لكان على أوروبا، قبل ممثل دولة المجر أن تهدد بقطع المساعدات عن إسرائيل إذا ما بقيت المناهج الإسرائيلية على ما هي عليه من ثقافة عنصرية في الجوهر، وما هي عليه من مناهج تحريضية ضد حقوق الشعب الفلسطيني، هذا إضافةً إلى إنكار وجود هذا الشعب نفسه في البداية، و»التلطُّف» و»التنازلات» الكبيرة التي قدمتها إسرائيل في السنوات العشر الأخيرة تحديداً عندما تعترف هذه المناهج بأن ليس من «العدل» إنكار «بعض» هذا الوجود، أو حتى ليس من العدل اعتبار الجيش الإسرائيلي خالي المسؤولية تماماً من نزوح بعض الفلسطينيين في العام 1948، مع أن المسؤولية الأساسية تقع على عاتق الفلسطينيين أنفسهم، وعلى عاتق الجيوش العربية؟!
أنصح بهذا الصدد بقراءة مقال الدكتور ماهر الشريف حول هذه المسائل قبل يومين فقط (مؤسسة الدراسات الفلسطينية 29/4/2022 ـ المدوّنات).
الأمر في الواقع أبعد وأخطر من ازدواجية المعايير، وهو ينطوي على تراجعات «حسّاسة» في المواقف الأوروبية الرسمية حيال الحق الفلسطيني في مقاومة الاحتلال، وهو انحياز أو اصطفاف جديد وانزياح جديد في حرب الرواية المستعرة بين الرواية الصهيونية والرواية الوطنية الفلسطينية.
«مفهوم» أن تجد إسرائيل بعض «الزبائن» مثل المجر أو غيرها في الحرب التي تشنها على الشعب الفلسطيني، وجوداً وتاريخاً وحقوقاً وروايةً، وعلى كل صعيد، ومفهوم أن ينبري بعض المتصهينين الجدد للقيام بهذا الدور الذي لا يليق بالشعب المجري، ولا بأيّ شعبٍ أوروبي أو غير أوروبي، ولكن ليس مفهوماً أبداً أن لا توقف أوروبا الزبائن الجدد لإسرائيل عند حدّهم، وأن لا تتصدّى لهم، أو أن تطالبهم بأن تكون مسألة المناهج مسألة تتعلق بالجانبين على الأقلّ، مع أن الوقوف على «الحياد» في الصراع بين هذين الجانبين هو بحدّ ذاته انحياز للمحتل وللاحتلال من زاوية القانون الدولي والشرعية الدولية، هذا إذا ما كان صعباً على أوروبا أن يكون موقفها المطلوب هو الانحياز للحق والعدل قبل كل شيء.
سواء نجح الزبائن الجدد لإسرائيل، بحجة «الإجماع» أو بغيره، في جرّ أوروبا ـ التي تبدو في هذه الأيام أكثر قابلية للجرّ من أي وقتٍ مضى في تاريخها الحديث كله ـ أو فشلوا فإنّ من الواضح أن معركةً كبيرةً سنحتاج لخوضها ضد هؤلاء، ومن هم على شاكلتهم من محدثي [النعمة السياسية الأوروبية] حول المناهج، وذلك لأن المعركة على المناهج هي فعلاً معركة على الرواية والهوية، وهي معركة لرفض الإذعان أو التراجع، والتمسك بالحقوق والأهداف، بما فيها الحق الكامل والمطلق بمقاومة الاحتلال وأدواته بكل ما يضمنه لنا وما يتضمنه القانون الدولي، والصمود الوطني الشامل والجماعي في الدفاع عن هويتنا وروايتنا.
ولهذا فإنني أدعو إلى قيام تكتل، أو تجمّع وطني يشارك فيه قادة الفكر والسياسة والثقافة والإعلام، ورموز وأعلام الثقافة الوطنية، ونشطاء المقاومة الشعبية دفاعاً عن حقنا بمقاومة الاحتلال، ودعماً وإسناداً للهوية والرواية الوطنية، ودعماً وإسناداً للمناهج الوطنية.

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر وكالة صدى نيوز.