الاحتلال هو باعث التوتر
أقل ما يمكن وصف الحكومة الإسرائيلية به، هو أنها تتميز بعمى الألوان السياسي، بما يجعلها عاجزة عن اتخاذ أي موقف حاسم تجاه أي شيء، بما في ذلك الموقف من الحرب الروسية_الأوكرانية، وهي في حقيقة الأمر ولسببين أولهما أنها مكونة من «كوكتيل حزبي متنوع» وثانيهما بسبب فقدانها الأغلبية البرلمانية الكافية، باتت غير قادرة على التصدي لأي ضغط ميداني، خاصة حين يتوافق ذلك الضغط مع توجهاتها الحقيقية، أو على الأقل مع المكون الأيديولوجي لأحزابها، خاصة الحزب الذي ينتمي إليه رئيس الحكومة نفتالي بينيت، ونقصد به التطرف اليميني الاحتلالي الاستيطاني العنصري، لذا فإن أداء الحكومة الإسرائيلية خلال عام مضى، يكاد يظهر التخبط في عديد الملفات، باستثناء الملف الفلسطيني، حيث تظهر الحكومة على حقيقتها كحكومة استيطان بامتياز.
وربما لا نكون نبالغ كثيراً لو قلنا، بأن مزاد التطرف في إسرائيل على ناحية اليمين، ما زال قائماً، فمنذ صعود بنيامين نتنياهو إلى سدة الحكم قبل ثلاثة عقود، واليمين باتجاه التطرف يتعزز ويتعمق داخل المجتمع الإسرائيلي، لدرجة تبدد معها اليسار، وجماعات السلام التي كانت تملأ شوارع وساحات تل أبيب بالمظاهرات التي تدعو إلى الحل السياسي والتعايش بسلام مع الجار الفلسطيني، ولم يعد هناك سوى المتطرفين اليمينيين من المستوطنين، الذين يجرّون الحكومة الإسرائيلية ومعها إسرائيل بأسرها إلى أتون حرب دينية لا أحد يعرف ما ستؤول إليه في نهاية الأمر، وذلك من خلال مواصلة مسلسل التعدي على المقدسات الدينية الإسلامية والمسيحية في الأرض الفلسطينية المحتلة، باقتحام المساجد ومنع الصلاة في الكنائس، وذلك ارتباطاً بباعث وهمي لدى جماعات الهيكل وغيرها، يقول بأن الأماكن المقدسة لدى المسلمين، وبالتحديد المسجد الأقصى والحرم الإبراهيمي وقبر يوسف وغيرها، ما هي إلا أماكن مقدسة لليهود!
وفق الوهم أو المعتقد المتطرف لدى المتطرفين اليهود، الذين ينخرطون منذ وقت في مسلسلات الاقتحام للمساجد، فإن تلك المساجد ما هي إلا تعديات على معابد اليهود، والتعديات لا بد من إزالتها في نهاية الأمر، أي أنهم في آخر المطاف سيقومون بهدم المسجد الأقصى والحرم الإبراهيمي وكذلك ضم قبر يوسف الذي يقع في قلب مدينة نابلس الفلسطينية، وهكذا فإنهم لم يكتفوا بحائط المبكى الذي هو حائط البراق، والذي كان محط الجدل أيام التفاوض حول الحل النهائي، وباتوا يسعون إلى ما يسمى بالتقسيم الزماني والمكاني لكل من الأقصى والحرم الإبراهيمي، فيما يصرون على السيطرة الأمنية على قبر يوسف، ومن خلال تكرار مشاهد الاقتحامات، وتثبيت ثقافة الاعتياد على صلواتهم في الأقصى والحرم الإبراهيمي، يسعون إلى تحويل الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين من صراع على الأرض «المتنازع عليها» إلى صراع على أماكن العبادة التي صارت متنازعاً عليها، بعد إظهار أن هويتها مضطربة، فهي ليست إسلامية، بل إسلامية_يهودية !
كل التضليل تظهره حكومة بينيت_لابيد_غانتس حين تدعي السماح بحرية العبادة لأتباع الديانات المساوية الثلاث، فأول أبجديات حرية العبادة، أن لا توضع العراقيل لأتباع ديانة محددة بممارسة شعائرهم الدينية في أماكن العبادة الخاصة بهم، فما بالنا إن كان الحديث يدور حول السماح لليهود المتطرفين بممارسة طقوسهم خاصة «صلواتهم» في أماكن العبادة الخاصة بالمسلمين، وليس داخل كنسهم، بل في المسجدين الأقصى والإبراهيمي؟!
المشكلة تكمن في أن الحكومة اليمينية الحالية، الضعيفة كما أسلفنا بسبب مكونها المتنوع وبسبب فقدانها للأغلبية البرلمانية، لا تجد سوى التطرف يضغط عليها ميدانياً، ويجرّها من موقع اليمين إلى مواقع التطرف، والى ممارسة الاحتلال بأقصى حدوده وأقسى أشكاله، ولا نبالغ لو قلنا بأن ايتمار بن غفير صار مؤثراً على القرار الحكومي أكثر من أي أحد آخر، بل ربما يكون هو المرشح لوراثة نتنياهو، بعد استنفاذ الوريث المؤقت والعابر، أي بينيت لفرصته في ذلك.
وبعد صمود فلسطيني أسطوري خلال شهر رمضان المنصرم، اضطرت حكومة الاحتلال إلى تعليق اقتحام المسجد الأقصى خلال العشرة أيام الأخيرة من ذلك الشهر، لتعاود السماح به بعد ثلاثة أيام مرت على يوم عيد الفطر، وذلك خلال ما يسمى بذكرى «استقلال إسرائيل» والتي هي ذكرى النكبة الفلسطينية، بما يعني بأن فتيل الاشتعال يظل قائماً، وحبل التوتر يظل مشدوداً، ما دام الاحتلال قائماً، وما دامت إسرائيل بكلها لا تقر بعد بأن كل الأرض الفلسطينية التي احتلها بعد الرابع من حزيران 1967، هي أرض محتلة، وليست محل صراع أو نزاع، بما فيها، بل وفي مقدمتها الأماكن المقدسة، وفي المقام الأول كل من المسجد الأقصى والحرم الإبراهيمي وقبر يوسف، وأن إسرائيل حتى تتعايش مع جيرانها، ومع الجار الفلسطيني بالتحديد، لا بد أن تكون دولة مدنية، وليست دولة دينية، ذلك أن إسرائيل دولة يهودية تبرر قيام دولة دينية إلى جوارها، أي دولة إسلامية، وهكذا فإن الطريق ينفتح أمام الحروب الدينية التي لا تنتهي.
والحقيقة أيضاً أنه إذا كان الوضع الداخلي لإسرائيل يفتح الباب لاستمرار التوتر وخطر الحرب الشاملة، فإن الظروف المحيطة، المتمثلة بمتابعة طريق التطبيع وفق صيغة «غرامية»، بين إسرائيل وكل من المغرب والبحرين والإمارات، كذلك تردد إدارة جو بايدن، التي فضلت تجميد الملف الفلسطيني/الإسرائيلي لصالح حل الملف الإيراني، وفتح الملف الروسي، يجعل من إسرائيل طرفاً غير شريك في عملية السلام مع الطرف الفلسطيني، وخير دليل على ذلك هو أن تل أبيب وواشنطن قد اتفقتا قبل وقت على متابعة طريق الحل الاقتصادي بتقديم التسهيلات المعيشية المؤقتة للجانب الفلسطيني، مع متابعة سياسة إغلاق أبواب التفاوض السياسي.
وهكذا تظل فلسطين ضحية الحسابات الدولية والإقليمية، كما كان حالها منذ ظهرت بوادر المشكلة بإعلان بلفور، ثم إرساء قواعد إقامة إسرائيل عبر الانتداب الاستعماري البريطاني ما بين عامي 1918_1948، ثم خضوع قرار التقسيم وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة لحسابات الحرب الباردة، وصولاً إلى بقائها معلقة في الهواء طوال ثلاثة عقود مضت على النظام أحادي القطب، في انتظار أن يفضي الصراع الدولي الحالي إلى عالم جديد، متعدد الأقطاب، قد يكون فيه مكان لدولة فلسطينية مستقلة ما زال يكافح الشعب الفلسطيني نيابة عن البشرية كلها، من أجل إقامتها كمفتاح للسلام والاستقرار، ومنع نشوب الحروب الدينية في الشرق الأوسط برمته.