حــدث المجـزرة..!!
مقالات

حــدث المجـزرة..!!

قاومت الاطلاع على فيديوهات المجزرة، واكتفيت بالمكتوب. ومع ذلك، فشلت، على غرار ملايين البشر، دائماً، في مقاومة التحديق في مشهد الرعب بعينين مفتوحتين، وانخطاف غامض. ولم أتمكن من الكلام، أو الكتابة، عن تلك اللحظة إلا بعد مرور أيام.
لم تكن المسافة الزمنية الفاصلة بين اللحظة المعنية، وإمكانية الكلام أو الكتابة عنها مطلوبة لأن مجزرة حي التضامن الدمشقي استثنائية من حيث العنف والبشاعة (فهي لم تكن كذلك)، ولا لأن فيها ما يُوفّر برهاناً إضافياً على صحة إدانات سابقة لنظام آل الأسد (فثمة براهين أكثر بلاغة وأهمية)، ولكنها كانت مطلوبة لتصبح المجزرة نفسها موضوعاً للتأمل، والذهاب فيها، وبها، إلى ما هو أبعد من "التضامن" مع الضحايا، أو "إدانة" المجرمين.
أوّل ما يرد إلى الذهن: المجزرة بوصفها تصعيداً درامياً وقيامياً للعنف. والمفارقة أن محاولة القبض على معنى العنف، هنا، تستدعي الاستعانة بمفردات غير تقليدية من نوع بورنو، وبورنوغرافيا، وهي مألوفة إلى حد ما في العالم العربي، ولكنها تُستخدم بطريقة خاطئة، في أغلب الأحيان، عند اختزالها في تعبير "الإباحي" وما يُشتق منه، كأن نقول "مشاهد إباحية" و"أفلام أو لغة إباحية".. الخ.
أما في لغات أوروبية، استعرنا مفرداتها، فينطوي التعبير على دلالة تحويل الجسد المُشترى، المُستلب، المُنتهك، وقد صار موضوعاً، ومنظوراً إليه، إلى مصدر للإثارة. لذا، العنف في صميم علاقة العين بموضوعها، وما ينجم عن العلاقة بين الطرفين يتجلى كعتبة أولى على سلّم العنف. ولماذا عتبة وأولى؟
هذا ما نعثر عليه لدى جون كويتزي، الجنوب أفريقي الحائز على نوبل في الآداب، الذي نحت التعبير في معرض تبرير وتفسير عيوب الكتابة، بطريقة مباشرة، عن عنف نظام التمييز العنصري في بلاده. فتكرار مشاهد العنف يُبلّد المشاعر. لذا، تستدعي الحاجة عنفاً أكبر للحصول على الإثارة المطلوبة، تماماً كما يحدث مع مدمني المخدرات، والبورنو، في دائرة مغلقة من تبلّد الإحساس، وموت الإثارة، أو ضمور المعنى.
وأعتقد أن هذا يفسّر، في جانب منه، الإقبال المُذهل على أشرطة الدواعش المصوّرة، التي تجز فيها الرؤوس، وإلى تبلّد إحساس ما لا يحصى من بني البشر مع تكرار المشاهد نفسها. فلن ينكر سوى جاهل حقيقة أن تلك الفيديوهات كانت من أقوى وسائل الدعاية والتجنيد، وأن إقبال الناس عليها لم يخلق ردة فعل أخلاقية وسياسية يُعتد بها ضد البربرية (أبعد من موضوع الحكي الفارغ عن الإرهاب) دفاعاً عن المدنية، والإنسانية، والحضارة، في الحواضر العربية.
لذا، لا يبدو أن ثمة مجازفة في القول إن من "صدمتهم" مشاهد المجزرة في حي التضامن الدمشقي، مع تجليات متنوعة ومختلفة للتعبير عن "الصدمة"، هم "مصدومون" أصلاً، ومنذ زمن بعيد، أي هم الناس الذي لم تساورهم أوهام إزاء النظام السوري منذ عقود طويلة، وحتى يوم الناس هذا. وهؤلاء ينبغي تمييزهم بشكل صريح عن ممثلين يتظاهرون بالصدمة، سنأتي على ذكرهم لاحقاً.
أما غير المصدومين، فهؤلاء هم "غير المصدومين"، دائماً، إما لأن مشاعرهم تبلّدت، أو (وهذه هي الفئة الأسوأ) لأن في أنظمة وتنظيمات "المقاومة والممانعة" ما يستدعي منحها خصومات أخلاقية وسياسية استثنائية، ويبرر غض النظر عن وسائلها طالما أن الغاية نبيلة. وغالباً ما نعثر على مرافعة إضافية، رخيصة بالمعنى الأخلاقي والسياسي، حين تجد من يقول لك: النظام سيئ، ولكن أليس أفضل من داعش؟ وفي هذا ما لا يستحق الرد.
والواقع أن حجم "غير المصدومين" هؤلاء يتجاوز الواقع القائم، ويذهب إلى ما هو أبعد وأعقد مما هو كائن الآن وفي مناطق مختلفة من الحواضر العربية (بما فيها بلادنا) فلا حضور، أو وجود، بالمعنى التاريخي، والثقافي في النسق العربي ـ الإسلامي لقيم الضمير المدني، والنزعة الإنسانية، وحقوق الإنسان، وكذلك في أيديولوجيا القومية العربية، والإسلام السياسي، والماركسيات العربية على أنواعها.
والأسوأ من هذا كله أن المسألة الفلسطينية قد استُخدمت على مدار عقود طويلة (في الحواضر، كما على يد الفلسطينيين أنفسهم) لكبت الضمير المدني، ومطاردة النزعة الإنسانية، وحقوق الإنسان، بوصفها "برجوازية" في أحسن الأحوال، ومشبوهة في أسوأها. وفي سياق كهذا، يصح القول: كلما زادت لغة القداسة في الكلام عن القضايا، فثمة ما يبرر النظر إلى القائلين، وقضاياهم، بعين الريبة والشك.
أخيراً، نختم بالكلام عمّن يتظاهرون بالصدمة خاصة في، وعبر، منصّات ومنابر عربانية. لا علاقة للكثير من هؤلاء، ولأصحاب تلك المنصّات والمنابر ومموليها بقيم الضمير المدني، والنزعة الإنسانية، وحقوق الإنسان. بل هم أعداؤها. كل ما في الأمر أن المجزرة تبدو مادة خصبة للتشهير، وذات قابلية عالية للمضاربة والتسويق.
والواقع أن عداء هؤلاء لنظام آل الأسد لم ينجم عن سجله السيئ في موضوع الضمير المدني، والنزعة الإنسانية، وحقوق الإنسان، ولا عن طريقته الدموية في إدارة الحرب الأهلية، وتاريخه على مدار خمسة عقود مضت، بل نجم عن علاقته الخاصة بالنظام الإيراني.
وفي حال فض العلاقة، وابتعاده عن الإيرانيين، أو ابتعاد الإيرانيين عنه، ستنتهي المشكلة، وتعود المياه إلى مجاريها باسم "الأخوّة" و"العروبة" و"التضامن العربي" من أجل "التنمية، الاستقرار، ومجابهة التحديات". هذه تعبيرات فارغة لا تعني شيئاً في الواقع، ولكنها تسود لغة الخطاب في حواضر العالم العربي، وهامشه الصحراوي، على حد سواء.
في حدث المجزرة الكثير مما يستحق التفكير والتدبير، وما تقدّم يمثل جانباً منه.

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر وكالة صدى نيوز.