الأزمة بين روسيا وإسرائيل... ظلال التاريخ وحسابات المستقبل
مقالات

الأزمة بين روسيا وإسرائيل... ظلال التاريخ وحسابات المستقبل

داهمت الأزمة الأوكرانية حكومة إسرائيل وهي على غير استعداد، فالائتلاف "الهش" الذي تستند إليه، والذي فقد مؤخراً غالبيته البرلمانية، الضئيلة على أي حال، يضم مروحة واسعة من الطيف السياسي – العقائدي الإسرائيلي، من اليمين واليمين المتطرف والوسط واليسار (وبعض العرب)، ولم تكن مهمة صياغة موقف "صلب" مشترك، باليسيرة على رئيس الحكومة ووزير خارجيته، فجاءت مواقف حكومتهما، متضاربة من الحرب وأطرافها ومراميها، حتى بات متعذراً على المراقبين، معرفة الموقف الحقيقي لهذه الحكومة من أخطر أزمة تصيب الأمن والسلم الدوليين، منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية.
ولعل هذا ما يفسر، إلى جانب عوامل أخرى، قيام إسرائيل بعرض نفسها لأول مرة في تاريخها، كـ"وسيط" في النزاع، وهي التي اعتادت أن تكون "طرفاً خشناً"، مصطفاً خلف الغرب والولايات المتحدة، في مختلف الحروب والنزاعات.. علاقات إسرائيل الاستراتيجية بواشنطن وحلفائها الغربيين، لم تمنعها من السعي لحفظ مصالحها الناشئة مع روسيا، وتحديداً ما خص منها الوضع في سورية ولبنان ومصير الملف النووي الإيراني، ومشروع "الوساطة" الإسرائيلية في الأزمة الأوكرانية، لم يكن مقصوداً بذاته، أو مبنياً على "وهم النجاح" بوقف الحرب، بل كان مخرجاً من "مأزق الخيارات"، ووسيلة لتفادي العواقب غير المحمودة لأي انحياز سافر لهذا الفريق على حساب ذاك.
بدا لبعض الوقت، أن القفز إلى الوساطة بدل الاشتباك، قد مكّن حكومة بينيت من تحويل "التحدي الأوكراني" إلى فرصة، ونجحت إسرائيل في الحفاظ على ما هو أكبر وأمتن من "شعرة معاوية" مع الكرملين، وظل طيرانها "يعربد" في السماوات السورية، دون أدنى تغيير في "قواعد الاشتباك، وظلت قنوات التنسيق بين الجانبين، سالكة في الاتجاهين، وتلكم قصة نجاح للدبلوماسية الإسرائيلية، يتعين الاعتراف بها.
وثمة قصة نجاح أخرى، يتعين الاعتراف بها، وتمثلت في توظيف إسرائيل مخاوف بعض القادة العرب، من عواقب "التخلي" و"الخذلان" الأميركيين لهم، لتعزيز اندماجها في المنطقة من ضمن "السياق الإبراهيمي"، وتأهيل ذاتها، للقيام بدور قيادي فاعل في المنظومة الأمنية الإقليمية، فالتأمت اجتماعات "النقب" السداسية في ذروة الأزمة الأوكرانية، وبحضور وزير الخارجية الأميركي شخصياً، ما عنى بكل وضوح، أن المقاربة الإسرائيلية حيال الأزمة الأوكرانية، وإن لم تحظ بكثير من الترحيب والحماسة في واشنطن وكييف، إلا أنها لم تُفضِ إلى أزمة في علاقات إسرائيل مع هذه الأطراف.
لكن التطورات الميدانية للأزمة الأوكرانية، وتفاقم حدة الصراع بين روسيا والغرب، كانا يجعلان من الصعب على الائتلاف الحاكم في إسرائيل الاستمرار في المواقف ذاتها.. بدأت حكومة الائتلاف، تحت ضغط من واشنطن و"اللوبي الأوكراني" في إسرائيل، في إظهار مزيدٍ من المواقف المؤيدة لأوكرانيا، وتوالت التقارير عن دعم إسرائيلي لحكومة كييف، يتخطى المساعدات الإنسانية، إلى إرسال المقاتلين والخبراء وتقديم مساعدات أمنية وعسكرية ولوجستية، تحتاجها أوكرانيا في حربها "الوجودية" مع روسيا، وهو ما أثار حفيظة الكرملين، وتسبب بأزمة في العلاقات الدبلوماسية بين البلدين.
حكومة بينيت وائتلافها الهش، غير المتجانس، تبدو منقسمة إلى تيارات ثلاثة: يمينها ويمينها المتطرف (بينيت في صدارته)، يعطي الأولية لمصالح إسرائيل المباشرة، إن في سورية أو مواجهة إيران أو في لبنان حيث يتجلى خطر "حزب الله"، هؤلاء لا يقيمون وزناً للخطاب الغربي حول "الحرب بين الحرية والاستبداد" و"حقوق الإنسان" و"القانون الدولي"، بل ويجنحون في الغالب إلى عدم إغضاب روسيا، لا سيما أن كتلة تصويتية وازنة لهذا التيار، تزيد على المليون نسمة، تتأتى من المهاجرين اليهود الروس، الذين يصوتون بالعادة لليمين واليمين المتطرف.
تيار اليسار وبعض الوسط (لابيد ناطقاً باسمه)، ويرى في تماهي إسرائيل مع الغرب، وخوض معاركه، وتحت شعاراته، شرطاً أساسياً للحفاظ على أمن إسرائيل ومصالحها وتفوقها على المدى الاستراتيجي، ولا يجوز بحال من وجهة نظر هذا الفريق، تهديد المصالح الأبعد والأهم لإسرائيل، من أجل مكاسب آنية، أو اعتبارات تكتيكية، ويجادل أنصار هذا الفريق، بأن لجم نفوذ إيران في سورية ولبنان، وكبح طموحها النووي، إنما يتحققان فقط بإدامة أفضل العلاقات مع واشنطن والغرب عموماً.
أما الفريق الثالث، ويتكون من القائمة العربية الموحدة وأحزاب إسرائيلية أقل تأثيراً، فلديه أسبابه الخاصة، المحلية غالباً، للمشاركة في الحكومة، وهو أقل اعتناءً بما يدور على الملعب الدولي من صراعات ونزاعات، ولا تتقرر مشاركته في الحكومة أو الانسحاب منها، بحسابات السياسة الخارجية، بل بأولويات السياسة الداخلية.
هذه التركيبة المعقدة للحكومة والائتلاف الحاكم، والتي تعكس بدورها تركيبة أكثر تعقيداً للمجتمع الإسرائيلي، والتي كانت في خلفية المحاولة الإسرائيلية للوقف على مسافة واحدة من طرفي الصراع في أوكرانيا، هي ذاتها المسؤولة عن التخبط والتناقض، اللذين أصابا لاحقاً أداء الحكومة، فبدا أنها تقول الشيء ونقيضه، يتحدث رئيسها بلغة، ووزير خارجيتها بلغة أخرى، تقول شيئاً في السياسة والإعلام، وتفعل نقيضه على الأرض، وإن بدرجة عالية من التعتيم والتعمية.
اندلاع الأزمة الدبلوماسية بين روسيا وإسرائيل، دفع المراقبين والمحللين إلى طرح أسئلة من نوع: هل خرج الخلاف بين الطرفين عن السيطرة؟ ما الذي يمكن أن تفعله روسيا رداً على الدعم الإسرائيلي لحكومة زيلينسكي؟ وهل للطرفين مصلحة في إيصال علاقاتهما إلى حافة القطع والقطيعة؟
الإجابة عن هذه الأسئلة والتساؤلات، جاءت سريعاً من الكرملين ومكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي، اللذين كشفا عن مكالمة هاتفية بين بوتين وبينيت، اتفقا خلالها على احتواء الخلاف وضبط إيقاعاته، والحفاظ على مصالحهما المشتركة، وتأكيد رغبتهما في الحفاظ على "شعرة معاوية" التي تربط أحدهما بالآخر، بل وتمتينها ما أمكن، فلا إسرائيل بوارد التخلي عن "اتفاق الجنتلمان" مع روسيا في سورية، ولا روسيا بصدد المقامرة بفتح جبهة جديدة ضد حلفائها في سورية والمنطقة، وهي التي بالكاد تنجح في إدارة عمليتها المتعثرة في أوكرانيا.
السيناريو الأكثر تطرفاً الذي كانت تخشاه تل أبيب، هو قيام روسيا بتزويد سورية (وإيران بالتأكيد) بأسلحة كاسرة للتوازن الاستراتيجي، فتقديم منظومات دفاع جوي متطورة لسورية وإيران، من شأنه إلحاق "الشلل" بسلاح الجو الإسرائيلي، وإفقاده قدرته على استباحة الأجواء السورية والعراقية وصولاً ببعض "المسيّرات" إلى المجال الجوي الإيراني.
وتزويد خصوم إسرائيل التوَاقين للحصول على منظومات صاروخية وطائرات حربية متطورة، من شأنه أيضاً تكسير هذه التوازنات، وتمكين أعداء إسرائيل في الإقليم، من تعزيز منظومات الردع المتبادل، بل وتهديد الخاصرة الإسرائيلية الرخوة: الجبهة الداخلية.
لكن روسيا ما كانت لتذهب إلى سيناريو كهذا، إلا بوصفه "الخيار الأخير"، فليست لموسكو مصلحة في تعزيز نفوذ إيران في سورية من جهة، وهي تدرك من جهة ثانية أن انهيار علاقاتها مع تل أبيب، سيضع عراقيل عديدة في وجه أي دور فاعل تتطلع للقيام به مستقبلاً، إن لجهة الصراع العربي – الإسرائيلي، أو لجهة التعامل مع أي ترتيبات أو هياكل أمنية إقليمية قد تنشأ في المنطقة.. ثم إن تجاوز روسيا لبعض "الخطوط الحمراء" في تسليح إيران وسورية وحلفائهما، سيفضي حتماً إلى تصعيد الموقف الأميركي – الغربي، ليس في أوكرانيا وحدها، بل وفي الشرق الأوسط برمته، وسيجعل النفوذ الروسي فيها، في مرمى السلاح الأميركي الذي سيتدفق في المقابل، على خصوم روسيا وحلفائها من قبل العواصم الغربية.
والخلاصة، أن الخلاف الروسي – الإسرائيلي في أوكرانيا وما وراءها، لم يعد خافياً على أحد، ومن المرجح أن يستمر، وربما يتصاعد، لكن المرجح كذلك، أن للطرفين مصلحة عميقة، في احتوائه وإدارته، وإبقائه تحت السيطرة، حتى لا يجد الطرفان نفسيهما، أمام خيارات لا يرغبان بها.

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر وكالة صدى نيوز.