لم ننتصر بعد.. ولكننا لم نُهزم أبداً
مقالات

لم ننتصر بعد.. ولكننا لم نُهزم أبداً

هذه هي المعادلة الحقيقية للصراع مع المشروع الصهيوني منذ النكبة وحتى يومنا هذا.
إليكم التسلسل الحقيقي لحقائق هذه المعادلة وهذا الصراع:
سواء كانت «فكرة» المشروع الصهيوني قد بدأت بالتبلور الفعلي نتيجة لتنامي الحركات القومية في أوروبا، واستثمار اليهودية العالمية للواقع الذي أفرزته تلك الحركات القومية، والبحث عن حل ما للمسألة اليهودية من زاوية الفرصة التاريخية بهذا المعنى، أو سواء أن الغرب نفسه امتنع وفبرك مثل هذا «الحل» واحتضن الزعماء اليهود آنذاك وشجّع طموحاتهم بهذا الاستثمار، فإن الحركة الصهيونية تمكنت من بلورة هذا المشروع بالتعاون الوثيق مع الغرب الاستعماري وبدعمه وإسناده الكاملين.
الحقائق على هذا الصعيد ثابتة ومستقرّة، وفي السياق التاريخي الملموس التقت المصالح الأوروبية وتقاطعت مع المشروع الصهيوني في المحاور، والمفاصل الآتية:
الأوّل، التخلص من «العبء اليهودي» على مجتمعات أوروبا الآخذة ببلورة حركاتها القومية الحديثة واصطلح على هذا التخلص (بحل المسألة اليهودية).
الثاني، دعم وإسناد قيام كيان سياسي (وطني) لهؤلاء اليهود يسهّل ويحقّق مثل هذا الحل.
الثالث، أن يكون هذا الكيان قاعدة للغرب بكل المعاني، وبحيث يستند الغرب إلى هذا الكيان لتحقيق مصالحه الاستعمارية الاستراتيجية.
لم تكن الصهيونية بعد قد نضجت بما يكفي وتحولت إلى الصهيونية الدينية، ما سمح آنذاك بمناقشة إنشاء هذا الكيان في إفريقيا أو أميركا اللاتينية، إلى أن تم «التوافق» على أن «الماضي التاريخي» لليهود في فلسطين يشكل نقطة قوة لهذا المشروع، وغطاءً فكرياً وثقافياً دينياً سيعزّز منه.
من هناك بالذات بدأ مسار تضخيم «الحقوق الإلهية»، و»أرض الميعاد»، و»شعب الله المختار»، وتحولت الميثولوجيا التوراتية إلى أساس فكري وثقافي لهذا المشروع، بالرغم من عدم «تسيّد» الصهيونية الدينية حتى ذلك الحين.
في مرحلة لاحقة بوشر بالإعداد العملي المباشر لهذا المشروع، وبدأت الاتصالات بين زعماء اليهود والجاليات اليهودية، وتمت محاولة «إقناع» السلطان عبد الحميد، وتوالت الضغوط الغربية عليه، وتقاسمت بريطانيا وفرنسا الترِكَة التركية بحيث تم الاتفاق في «سايكس ـ بيكو» على أن تتولّى بريطانيا مهمّة الإشراف المباشر على تنفيذ المشروع والإشراف عليه، من خلال «وعد بلفور»، ومن خلال صكّ الانتداب على فلسطين، والذي تعهد بالإنجاز الفعلي للمشروع بقيام دولة «لليهود» في فلسطين، والتي أُعلن عن قيامها قبل 74 عاماً من يومنا هذا.
ومنذ عشرينيات القرن الماضي هبّ الشعب الفلسطيني، والذي لم يكن لديه مؤسسات كيانية قوية ومتماسكة، شأنه في ذلك شأن بلدان عربية أخرى، في مقاومة هذا المشروع، وترافق كفاح الشعب الفلسطيني، وتلازم ضد الانتداب البريطاني، وتوالت الهبّات والثورات والانتفاضات حتى «سقوط» فلسطين، وحتى انسحبت الجيوش العربية، وبعد استشهاد القائد عبد القادر الحسيني، وبعد أن تمّ اقتلاع حوالى مليون فلسطيني من أرضه، وبعد أن تمّ تشريدهم ومصادرة هويتهم وإلحاقها بالنظام العربي الذي فرض الوصاية عليهم.
لم يتوقف الشعب الفلسطيني يوماً واحداً عن الكفاح ضد هذا المشروع بكل السبل والوسائل الشعبية والسياسية والعسكرية، وخاض أكبر إضراب عرفه التاريخ الإنساني كلّه، واستبسل في مقاومة بريطانيا والحركة الصهيونية في هبّات وثورات مسلّحة، أي أن الشعب الفلسطيني قاوم المشروع بين صدور «وعد بلفور»، وقيام إسرائيل بكل ما توفّر لديه من وسائل وإمكانيات ضد أكبر قوة استعمارية في العالم آنذاك، وهي بريطانيا، وقاوم عصابات الحركة الصهيونية، والتي اعتبرت آنذاك أكبر حركة سياسية مدعومة من الغرب كله، إضافةً إلى الدعم الهائل للرأسمال الصهيوني (اليهودي)، في ظل واقع سياسي واجتماعي واقتصادي مهلهل، على المستوى الفلسطيني، وفي ظل واقع عربي مزرٍ ومتردٍّ، هذا إضافة إلى واقع دولي لم يكن لينصف الشعب الفلسطيني، أو ليتصدى للمشروع الصهيوني، بل إن هذا الواقع كان عنصراً داعماً ومؤيداً لقيام إسرائيل على حساب الشعب الفلسطيني، ومصادرة حقوقه والتنكّر لها.
لم تتمكن تضحيات الشعب الفلسطيني من منع النكبة، ولم تسعفه مسرحية جيش الإنقاذ، وتكرس تشتيت هذا الشعب، وغُيّبت هويته، وتفتّقت «عبقرية» الغرب عن إنشاء «الأونروا»، وبناء المخيمات، وبدأت مرحلة التيه واللجوء والإلحاق والوصاية ترمي بثقلها على شعب بأكمله.
في السنوات القليلة التي تلت النكبة حاول المشروع الصهيوني أن يكيّف نفسه مع المتغيرات الدولية بُعيد نتائج الحرب العالمية الثانية من خلال «إدراج» نفسه في الحلف المعادي للنازية، ونقل تحالفه الجديد إلى الولايات المتحدة التي تحولت إلى القوة العظمى في العالم، وأبقى على تحالفاته مع الغرب.
كان المشروع الصهيوني في الخمسينيات وحتى حرب حزيران يسوّق نفسه على أنه مشروع «تحرّري»، وأن الصهيونية هي الأداة السياسية والعنوان لهذا التحرّر.
وحاول المشروع الصهيوني أن يعطي لنفسه بريقاً آخر من خلال الطابع الاشتراكي «للكيبوتسات»، واستثمر بصورة خاصة في مسألة أن إسرائيل هي الدولة «الديمقراطية» الوحيدة في كامل المنطقة.
ولأن الغرب رأى في إسرائيل قاعدة لمصالحه في هذه المنطقة من العالم، وبما هي عليه من أهمية استراتيجية، وخصوصاً في مجال الثروات النفطية فقد تبنّى بالكامل الأطروحات الإسرائيلية، ودافع عنها، وتحولت إلى جزء عضوي من سياساته واستراتيجياته في كامل منطقة هذا الإقليم.
لكن إسرائيل وقعت في ثلاثة أخطاء استراتيجية في هذه الفترة بالذات:
الأول، عندما اعتقدت أن ما حلّ بالشعب الفلسطيني بعد النكبة لن يمكّنه من النهوض ثانية، وأن الأجيال التي عاصرتها ستموت، والأجيال اللاحقة ستنسى، وهنا فشل التقدير الصهيوني كان مدوّياً وصارخاً وقاتلاً.
الثاني، عندما اعتقدت إسرائيل والحركة الصهيونية أن الإبقاء على 150,000 فلسطيني في الداخل لن يشكّل لهما أي أزمة من أي نوع كان.
وهنا، أيضاً، كان التقدير فادح الخسارة، حيث يشير بعض التقديرات لدى استراتيجيي إسرائيل ومستشاريها للأمن القومي أن فلسطينيي الداخل هم الخطر الوجودي الأول على الدولة الصهيونية.
أما الثالث، الاعتقاد الإسرائيلي بعد حرب حزيران 1967 أن بإمكان إسرائيل المحافظة على دولة بأكثرية يهودية من خلال القمع والتهجير الاقتصادي، ومن خلال التركيز على ضمّ الأرض، والاستيلاء عليها لتكون النتيجة تعثّر الضمّ، ولو مؤقتاً، وتحول الفلسطينيون إلى ما يعادل عدد الإسرائيليين اليهود، وبدأ تسرّب الشكوك لديهم بأن إخراج قطاع غزة من المعادلة الديمغرافية إنما هو مسألة مؤقتة، ولا يمكن الرهان على بقاء انقسام الشعب الفلسطيني، ما أصبح «لزاماً» على إسرائيل الاستيطان المكثّف، والترحيل إذا لزم الأمر في بعض المناطق، وخصوصاً في جنوب الضفة والأغوار والنقب، ما يعني أن الدفاع عن المستوطنات والمستوطنين سيتطلّب عسكرة المجتمع الإسرائيلي واقتصاده لاحقاً، وتشكيل ميليشيات مسلّحة «رسمية» وهي كلها مؤشّرات على خضوع الدولة للفاشية المتنامية في إسرائيل.
باختصار، يستحيل على إسرائيل الاستمرار بمشروعها الآن بمعزلٍ عن تعميق المحتوى الديني للصراع، وتعميق المحتوى الديني للجيش والأمن، ومن دون عسكرة الدين نفسه لن تتمكن إسرائيل من الإبقاء على التعايش بين المؤسسة السياسية والمؤسسة الدينية والمؤسسة العسكرية والأمنية (هذه العوامل الأخيرة تحديداً وردت على لسان المفكّر الفلسطيني عصام مخّول في ندوة مختصة، أول من أمس).
في المقال القادم سنتعرض للأخطاء الاستراتيجية التي وقع بها الشعب الفلسطيني وقيادته في قراءة المشروع الصهيوني من زاويتين:
الزاوية الأولى، استحالة التعايش مع المشروع الصهيوني.
والثانية، استحالة الفصل بين المشروع الاستعماري الغربي وإسرائيل، وكيف أن أي مراجعة لا تبدأ من هنا ولا تنتهي إلى هذا ليس لها أي فائدة جوهرية في تعديل ميزان هذا الصراع.
لم ننتصر بعد، ولكن لم يتمكنوا من هزيمتنا، أما إذا أردنا أن ننتصر ونهزم المشروع الصهيوني على أرضنا فليس لدينا من خيار سوى الصمود والمجابهة على قاعدة جدية وجادّة من المراجعة الحقيقية بعد مرور كلّ هذه السنين على النكبة.
 

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر وكالة صدى نيوز.