الاعلام الخارجي وأزمة المعايير
مما لفت الانتباه في جريمة إعدام الشهيدة شرين أبو عاقلة هو إصرار الاحتلال على شروط تقييدية للجنازة، كاشتراط الحصول على موافقة الاحتلال المسبقة على مسار الجنازة، وأن يكون التشييع بسيارة لا حملاً على الاكتاف، في مخالفة للعادات الفلسطينية. ولوحظ كذلك اشتراط الاحتلال تقييد عدد المشيعين ليكون بالعشرات فقط.
كل هذا ناهيك عن موضوع الجريمة ذاتها، إعدام الصحفيين، وقائمة أسمائهم تطول.
المثير هنا هو أن الاعلام الخارجي، الغربي تحديداً، سلك مسار السير بجانب الجدار من باب "سكن تسلم". فنجد عشرات المقالات والمنتجات الإعلامية الغربية التي ربما ما كانت لتصدر لولا حقيقة استشهاد صحافية فلسطينية عالمية بحجم الشهيدة أبو عاقلة أمام عدسات كاميراتهم وعلى شاشاتهم.
في الحقيقة نجد أن الاحتلال الإسرائيلي، ربيبة الغرب، بيمينه ويساره، لم يترك للغرب، الذي فرضه على فلسطين، فرصة استمرار الرياء الذي اعتدنا عليه. فقد اغتال شرين على الهواء مباشرة، ثم اتهم المقاومة الفلسطينية بالمسؤولية عن جريمته، مستبقاً قيام الاعلام ومؤسسة بيتسيلم بكشف كامل تفاصيل الجريمة.
ما بين الاغتيال والاعتقاد بإمكانية القاء اللوم على الضحية طالب الاحتلال بإجراء تحقيق في الجريمة، قبل أن ينضم لتلك المطالبة دول غربية وازنة تطالب بالتحقيق ولم تستطع سحب مطالبتها بعد اثبات و "شبه" اعتراف الاحتلال بجريمته.
ولأن الفلسطينيين والعالم، واضيف الان بعض مسؤولي الاحتلال السابقين، يدركون ويقولون علناً أن لا ثقة بالاحتلال ليحقق مع نفسه في جرائمه، وليست جرائم الاحتلال السابقة ببعيدة، مثل جريمة اغتيال الشهيد عبد الفتاح الشريف الذي اعدمه الجندي ازاريا وهو ينزف مستغيثاً على الأرض، قبل ان يقوم الاحتلال بمسرحية التحقيق مع المجرم ازاريا وايداعه سجن خمسة نجوم بحكم ثمانية اشهر خفضت لاحقاً ثم افرج عنه، بل واحتفل به كبطل، أو اغتيال الناشطة الامريكية راشيل كوري أو اغتيال البريطاني توم هيرندل، لدرجة ان المقام لا يتسع لكل ذلك الاجرام الذي لا مكان له سوى مكان واحد هو محكمة الجنايات الدولية أو محكمة دولية خاصة بجرائم الاحتلال كما حدث بجرائم التطهير العرقي في رواندا وغيرها.
وبكل ما سبق في البال، مضافاً اليه الاهتمام الغربي بأحداث أوكرانيا وتصريحات إعلامية غربية قميئة حول لون البشرة والعيون الزرقاء ضحايا الحرب هناك، نستغرب ان ذا الاعلام الذي ينظر علينا ليل نهار بقيم حقوق الانسان لم يجد لديه مساحة تكفي للقول صراحة أن الاحتلال هو الذي أعدم الشهيدة الصحافية شرين أبو عاقلة. في الحقيقة نجد أن هذا الاعلام الغربي سلك مساراً بجوار الجدار دون أن يكلف نفسه عناء النظر لما هو محفور على الجدار. لقد غطى الاعلام الغربية، بكثيره لا جليله، استشهاد شرين أبو عاقلة بمصطلحات مثل "قتل صحافية، إصابة صحافية، وغير ذلك".
لقد تجلت وقاحة وغياب اخلاق بعض المؤسسات الإعلامية الغربية بأبشع صورها في تغطيتهم لاعتداء الاحتلال على جنازة الشهيدة داخل المستشفى المسمى على اسم دولة من دولهم، حيث وصفت احدى المحطات المركزية ذلك الاعتداء بأنه "اشتباك ومواجهات"، في حين كتب صحفي من كيان الاحتلال واصفاً ذلك الاعتداء بكونه "جريمة مخزية عديمة الاخلاق!!"
تعتقد بعض المؤسسات الإعلامية الغربية ربما بسذاجة أو قصر ذاكرة الفلسطينيين، فنجدها تحاول رش السكر على الموت حرفياً باستخدام مصطلحات فضفاضة تتجنب تسمية الأمور بمسمياتها، ولاستجلاء الامر أكثر عدنا لمقالة نشرتها صحيفة نيويورك تايمز في الأول من آب 1985 بعنوان "جنوب افريقيا تحظر الجنازات الجماعية لضحايا اضطرابات السود"!!!
لسنا هنا بمعرض تحليل المقال أو عنوانه ومدى تغييب الضحية او ابراز الجلاد، غير ان المقال ضم جملة تصعق كل ذي ضمير. ركزوا في الجملة التالية المقتبسة من مقال نيويورك تايمز عن نظام الفصل العنصري بجنوب افريقيا سابقاً.
"في أمر خاص نُشر اليوم ، قالت الحكومة إنه من الآن فصاعدًا سيتم حظر التأبين الخارجي لتأبين "وفاة أو جنازة الأشخاص الذين ماتوا لأسباب غير طبيعية" في المناطق التي ينطبق عليها مرسوم الطوارئ. "
وذكر الامر أنه لا يجوز لمن يحضرون الجنازات السفر إلا بالسيارة على طول طريق تحدده الشرطة مسبقًا. كذلك فإن أجهزة مخاطبة الجماهير ورفع الأعلام أو اللافتات تعتبر محظورة."- انتهى الاقتباس.
ذكروني ان كان هناك في تعامل الاحتلال مع جنازة الشهيدة شرين أي جديد!!! هذا احتلال مفلس بائس حتى في قمعه للفلسطينيين، وكذلك نحن نواجه اعلاماً قاصراً لا يعترف بالحقائق والحقوق، فنجده يتناسى ما كتب عن النظام العنصري بجنوب افريقيا وجرائمه، بل لا يجرؤ على ذكر ذلك.
ختاماً، كل ما يلزم هو الاستمرار في وضع أصابع الحقيقة عند عيون الاعلام الذي يتعامى عن حقوقنا ويتعامى اكثر عن جرائم الاحتلال، فهو مرتاح ما دامت تلك الجرائم بعيدة عن ذوي البشرة البيضاء وعيونهم الزرقاء، وليحل بالفلسطينيين ما يحل.