المعادلات الغائبة والمغيّبة في الصراع على القدس
مقالات

المعادلات الغائبة والمغيّبة في الصراع على القدس

لم يتراجع نفتالي بينيت قيد أُنملة عن «مسيرة الأعلام»، بل وزاد على المعلن منها بأن زجّ بمئات المستوطنين بأعدادٍ كبيرة في باحات المسجد الأقصى، واقتحم المستوطنون منطقة باب العامود بكثافة، وقاموا برقصات العَلَم بصورةٍ استفزازية سافرة ومكشوفة، تمهيداً لـ «مسيرة الأعلام» التي ستكون الأكبر على ما يبدو.
كل مراقب ومتتبع للشأن الإسرائيلي كان يعرف أن بينيت لا يقيم أيّ وزن للتحذيرات الدولية أو «العربية»، وهو لا يخشى التهديدات القادمة من قطاع غزة، كما يتجاهل كل المواقف الفلسطينية الرسمية والحزبية، في حين أن المواقف «المتحفّظة» من بعض قوى الائتلاف الحكومي لا قيمة لها حتى من الزاوية الرمزية.
الحساب الوحيد الحقيقي الذي يحسب له نفتالي بينيت هو المواجهة الشعبية الفلسطينية، وإرادة الشباب الفلسطيني في هذه المعركة السياسية بامتياز على صورة «السيادة» الإسرائيلية على المدينة المقدسة.
أما لماذا أدار بينيت ظهره للجميع، وبقي مشدوداً فقط لمواقف الشباب الفلسطيني وإرادتهم فإليكم الأسباب:
لو تراجع نفتالي بينيت ـ كما كان قد «تراجع» نتنياهو ـ وظهر كمن «خضع» للضغوط «العربية» والدولية والفلسطينية لتمّ إسقاطه وإسقاط حكومته على الفور، ولو تراجع نفتالي بينيت لأعطى للمعارضة اليمينية بقيادة نتنياهو «سلاحاً» قاتلاً ضده وضد الائتلاف، ولو تراجع بينيت لفُسِّرَ موقفه وكأنه رضخ لتهديدات «الصواريخ»، وأن تلك التهديدات باتت جزءاً من موازين المعادلة القائمة.
لهذا كله فإن نفتالي بينيت اليوم والآن بالذات يغامر بكل شيء، وهو يعي أنه قد يسقط على كل حال، لكنه سيسقط وهو محاط بالمستوطنين، ليس فقط من اليهود المتدينين الذين يرون أنفسهم باعتبارهم يمثلون «الروح اليهودية» والصهيونية الدينية التي باتت تتصدر وتقود المشروع الصهيوني في فلسطين، وإنما من كل قوى اليمين.
باختصار نفتالي بينيت يحضّر نفسه للمرحلة القادمة، وهو بهذا المعنى بالذات يخوض معركة بقاء حزبه في الحلبة السياسية، وبقاء زعامته للحزب، وربما طموحاته بما هو أبعد من ذلك. هذا كله من حيث المظهر.
أما من حيث الجوهر فإن إسرائيل وكل تيارات جناحها اليميني المتطرف تعيش حيال مسألة القدس أزمة لا تستطيع أيّ مناورات سياسية أن تحلّها.
عندما تضطر إسرائيل إلى استقدام أكثر من عشرة آلاف من الشرطة وقوات الأمن و»حرس الحدود»، ومئات، وربما آلاف من الشرطة السرية والخاصة فهي في الواقع تعترف بأن القدس ـ «العاصمة الموحَّدة لإسرائيل» ـ هي خارج هذه السيادة بالمعنى الحقيقي والواقعي للكلمة، وأنها «موحَّدة» بالقوة العسكرية الغاشمة، وباستقدام عشرات آلاف المستوطنين، ليس فقط من اثنتي عشرة مستوطنة تحيط بالقدس، وإنما من كل مستوطنة من المستوطنات في الضفة.
كانت إسرائيل تخطّط لأن يكون عدد الفلسطينيين في القدس الشرقية في مثل هذه الأيام حوالى 20% فقط، في حين أن عدد الفلسطينيين كنسبة من سكان شرق المدينة هو حوالى 40%، وذلك بالرغم من هدم آلاف المنازل، وبالرغم من سحب آلاف الهويات، وبالرغم من حصار المدينة المقدسة، وتحويل حياة الفلسطينيين في بعض الأحياء المستهدفة استهدافاً مباشراً إلى جحيم لا يُطاق.
ليس هذا فقط، وإنما فشلت إسرائيل فشلاً ذريعاً ومُدوّياً في أسرلة المقدسيين، وفشلت فشلاً مضاعفاً في إبعاد الشباب الفلسطيني عن مدينتهم أو فصلهم عن قضيتهم، بل والطامة الكبرى بالنسبة لإسرائيل أن أهل القدس وشبابها وشاباتها دون دعمٍ فعّالٍ وحقيقيّ من أي طرف يتغنّى بالقدس وصمود أهل القدس يتحولون إلى الحساب الوحيد في حسابات الصراع على المدينة.
إذا كان من دلالة على كل هذا أن محاولات إسرائيل «اختراع» صورة حول «سيادتها» على المدينة، وحول «وحدة» المدينة تحت هذه السيادة، والتي تترافق مع آلاف الأعلام الإسرائيلية في محاولة لتحويل السيادة الإسرائيلية إلى نوعٍ من «الفُرجة» الدعائية، تبدو ساذجة وسخيفة.
وعندما يتحوّل العلم الفلسطيني إلى «الهدف» رقم واحد، وعندما يتحوّل مجرّد الهتاف إلى سببٍ كافٍ للاعتقال، وعندما تتحول المدينة إلى ثكنة عسكرية لكي يتمكن هؤلاء المستوطنون من إقامة احتفالاتهم «بحماية» آلاف الكاميرات لكي يتمكن عشرات آلاف المستوطنين من إثبات ما لا يمكن إثباته.
الاستعراض هو السبيل الوحيد للإيحاء بأن إسرائيل تفرض «سيادتها» على القدس التي تبدو فيه اليوم بالذات أبعد ما تكون واحدة أو موحّدة.
إسرائيل من أجل أن تبدو وكأنها تسيطر على شرق المدينة تستنفر قواتها، وتستقدم كل جيشها في الشمال والجنوب، وهي تستقدم كل ما لديها من قوات أمن وشرطة وأجهزة قمع وبطش، وهي ترتعد خوفاً من اندلاع مواجهات شاملة في كل الضفة وعلى حدود غزة، وهي تتأهّب لقمع التظاهرات التي تتوقعها في الجليل والمثلث والنقب، وفي المدن المختلطة.
والسؤال الذي يطرح نفسه: ماذا ستفعل إسرائيل يا تُرى لو اندلعت المواجهات الشاملة   في كل مدينة وقرية ومخيم، وماذا ستفعل إذا اندلعت المواجهات في كل قرية ومدينة في الداخل الفلسطيني، وماذا ستفعل إذا تحرّكت المدن والعواصم العربية والإسلامية، وعواصم ومدن العالم، ومن أين لها القوة والجيوش والحشود الاستيطانية لمواجهة كل ذلك؟
هذا يعني ببساطة أن الانتفاضة الشعبية الشاملة في كل الأرض الفلسطينية هي السلاح الحقيقي الوحيد الذي يلعب دور أسلحة الدمار الشامل للمشروع الصهيوني، ولعلّ محاولات تصوير الصراع وكأنّه صراع «بالصواريخ» هو أكبر عملية تضليل لحقائق هذا الصراع، وهو محاولة للالتفاف على المواجهة الشعبية.

في ظروف معينة قد تختلف معادلات الصراع، وقد يصبح السلاح هو أحد الأشكال الضرورية، لكن سلاح المواجهة الشعبية الآن، وفي ظل المعطيات القائمة هو الأقدر على الفعل والتأثير والتغيير، وهو القادر على الحشد والتحشيد من موقع المشاركة في المعركة، وليس من موقع «التفرّج» على المعركة الوطنية.
ويمكن أن يكون السلاح فعّالاً في الدفاع والردع، ولكنه لا يمكن أن يكون هو البديل عن المواجهة الشعبية، لأن المسألة ببساطة تُحسم لصالح إسرائيل في نهاية المطاف طالما أننا لا نمتلك ظروفاً مساعدة على استخدامه بصورة مستدامة وفعّالة يمكن أن تُحدث التراكم الاستراتيجي المطلوب.

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر وكالة صدى نيوز.