مسيرة أعلام أزمة هوية
ما يجري في القدس في الأشهر الأخيرة من اقتحامات ومسيرات لرفع الأعلام في المدينة وفي المسجد الأقصى أكبر من مجرد رفع علم هنا أو هناك، إذ إنه يجسد حقيقة الصراع على السيادة في المدينة المقدسة التي يريد الاحتلال أن يمحو أثر الوجود الفلسطيني فيها. أزمة دولة الاحتلال بعد اكثر من سبعين عاماً من سرقة البلاد واكثر من نصف قرن من احتلال القدس الشرقية أنها لم تنجح في تغيير هوية البلاد وشكلها ناهيك عن عدم مقدرتها التحكم في الديموغرافيا والوجود الفلسطيني فيها. فالفلسطيني الذي بقي في يافا وحيفا والناصرة والجليل لم يتحول إلى ماسح أحذية ولا جنائني يشذب حدائق المستوطنين، بل ظل يكافح من أجل الحفاظ على هويته وتمسكه بأرضه، كما أن حلم الفلسطينيين في بلادهم لم يخبُ، فالكبار ماتوا وظل الصغار أكثر حفاظاً على ذاكرة البلاد. القصة ليست علما وليست مسيرة بل أزمة هوية وسعي حثيث لتغيير شكل البلاد استكمالاً لسرقتها.
لقد اشتكى الكثير من الكتاب الصهيونيين قبل ذلك من أن لا شيء في البلاد من طولها لعرضها يشير إلى يهوديتها. فالسائق الذي يسير على طول الطريق السريع من رأس الناقورة حتى عسقلان أو في وسط البلاد وصولاً إلى بئر السبع أو إيلات لا يرى ما يشير إلى أن هذه البلاد يهودية، فكل ما يراه مآذن وكنائس وبقايا بيوت عربية. صحيح أن المدن الكبرى مثل تل أبيب لا تبدو عربية حقيقة ولكنها أيضاً لا تبدو يهودية فهي مدينة غربية، والمدن العربية الجديدة في الكثير من البلدان المجاورة تبدو اكثر حداثة منها. ما دعا أحد الكتاب الصهاينة للمناداة بضرورة تهويد الأفق في البلاد. هذه هي عقدة دولة الاحتلال أنها لا تشبه البلاد، أن لا شيء في البلاد يشير إلى أنها يهودية أو أن ثمة بقايا ولو ضئيلة لآثار العابرين رغم أن كل من عبروا من البلاد من فرس وفراعنة ورومان وإغريق وغيرهم من الغرباء وجدت لهم بقايا وأدلة على وجودهم. هذه معضلة إسرائيل النفسية أن البلاد لا شيء فيها من حكايات القبائل غير المثبتة. لا شيء. حتى بعد مرور أكثر من سبعة عقود على النكبة وبناء المستوطنات في كل مكان والمحاولات المكثفة لإزالة أي أثر للوجود الفلسطيني وإخفاء بقايا البيوت وزراعة الأشجار مكانها فإن حجراً صغيراً ناتئاً من الأرض هو بقايا شرفة بيت فلسطيني تقترح بأن الموجود الحقيقي في هذه البلاد رغم كل شيء هو الفلسطيني. الفلسطيني لم تحوله النكبة إلى ذكرى ولم يختف.
هذا يفسر مثلاً الهوس الصهيوني برفع العلم في ذكرى النكبة على كل عامود نور وعلى كل بناية. ومع ذلك فإن هذا لن يقترح ولن يدل على أن للبلاد هوية غير هويتها الأصلية. نفس الأمر ينسحب على المسجد الأقصى بشكل خاص والمدينة المقدسة بشكل عام حيث إن السير بالأعلام ورفعها ومداهمة الأماكن المقدسة ومحاولة رفع هذه الأعلام عليها خاصة على أسوار المدينة أو المسجد ما هو إلا محاولة للتصالح مع هذا الغياب المادي عن هذه الأماكن التي لم يوجد أي أثر يقول إنها كانت غير كنعانية عربية على طول التاريخ. هذا بدوره جزء من أزمة الهوية التي تعاني منها دولة الاحتلال حيث إن الافتراضات التي تم توظيفها لخطف البلاد عبر المشروع الكولونيالي الإحلالي وتم إقناع الغرب فيها، الغرب الذي اقتنع زوراً بها لأسبابه الخاصة، لا أثر لها. وبقدر العجز عن الإجابة عن السؤال الكبير (من هو اليهودي) بقدر عجز دولة الاحتلال عن تغيير هذه الحقيقة التي تشير إلى هوية وأفق غير دولة وأفق الاحتلال.
ربما ما يشير إلى الاحتلال هو الثكنات العسكرية ونقاط التفتيش والحواجز وأبراج المراقبة والأسلاك الشائكة والجدار. وهذه تشير إلى قسوة الواقع الذي يعيشه الفلسطينيون ولا تشير إلى هوية الدولة. وبكلمة أخرى تشير إلى نفي هذه الهوية حيث لا تقول ما هي هويتها بل ما هي هوية الشعب الواقع تحت احتلالها.
المشكلة نفسية وهوياتية وتعكس نفسها على كل أنماط التصرف والسلوك السياسي والميداني وهي بالتالي ليست مجرد رفع علم ولبس ملابس التدين وإجراء طقوس تلمودية.
كل هذا لن يغير من هوية البلاد. فلو اصطف مليون من غلاة اليمين الصهيوني بجوار حائط البراق وقرؤوا ما شاؤوا ومارسوا العربدة بالطريقة التي اعتادوا عليها فإن ذلك لن يجعل هذا البراق حائط مبكى، حتى لو نشرت إسرائيل مليون فاصل إعلاني في كل مطارات العالم ومقاهيه، فالقصة أكبر من مجرد فرض هوية مغايرة على الأماكن، فالأماكن لا تخون ذاكرتها، كما أن شكل المدن لا يُكتسب قهراً. فالقصة ليست قصة مسيرة أعلام أو رفع الأعلام على الطرقات بل هي انعكاس لأزمة وجود وهوية أعمق بكثير من التفاصيل التي تجري. والبحث عن حلول لهذه الأزمات هي بفرض هوية على المكان الفلسطيني. طالما لا يوجد ما يثبت أن هذه البلاد يهودية إذاً، لنلصق بها الأعلام اليهودية. هذا لن يغير شيئاً من الحقيقة.
ومع ذلك فإن منع هذه المسيرات ومجابهتها برفع العلم الفلسطيني الذي استشهد من أجل رفعه المئات على مدار قرن من الكفاح التحرري يجب أن يتصاعد من أجل إبراز حقيقة الأرض وأصحابها. صحيح أننا لسنا بحاجة للقول إن هذه البلاد لنا لأنها ببساطة لنا وليست لأي أحد آخر، لكننا مطالبون بتفعيل الجهد من أجل محاربة أي محاولة لتشويه هذه الحقيقة من خلال إبراز كل ما هو فلسطيني في هذه البلاد، وفي قلب كل ذلك العلم الذي يلف به شهداء شعبنا.