المحكمة تحاسب الأفراد.. من يحاسب الدولة؟
مقالات

المحكمة تحاسب الأفراد.. من يحاسب الدولة؟

بعد جريمة اعدام شيرين أبو عاقلة, شاع الحديث عن أهمية ودور المحكمة الجنائية الدولية, من الضروري التنبه ان اللجوء للمحكمة الجنائية الدولية لن يدعو لمحاسبة إسرائيل كدولة ولكن حسب اختصاص المحكمة ستتم ‏محاسبة الافراد من العسكريين وجنود الاحتلال الذين يصدرون الأوامر بالدرجة الأولى لقتل المدنيين او الاستيطان او التهجير في حال أثبتت التحقيقات تورطهم في الجرائم. ‏وفاءً لأرواح الدُّرة وأبو خضير والدوابشة وشيرين واحمد وزيد والآلاف من الشهداء الفلسطينيين الذين قضوا ضحية لجرائم الاحتلال الاسرائيلي، كان لا بد للقيادة الفلسطينية من التوجه للمحكمة الجنائية الدولية. لقد تم ‏اعتماد النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية في روما 1998 وتأسست المحكمة عام 2002 بهدف محاسبة أفراد ارتكبوا جرائم ضد الانسانية وجرائم الحرب وجرائم الإبادة الجماعية. انضمام فلسطين للمحكمة ‏الجنائية الدولية لم يكن أوتوماتيكياً بل بدأ بالتوجه للأمم المتحدة لرفع مكانة فلسطين في العام 2012 الى دولة غير عضو مما سمح بالانضمام لمجموعة من الاتفاقيات والمواثيق الدولية، وهنا تقدم الطلب الفلسطيني ‏للانضمام لميثاق روما الخاص بالمحكمة. تلا ذلك اعلان المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية -فاتو بن سودا- انضمام فلسطين فعلياً نهاية ‏عام2015. المحكمة تباشر اختصاصها بعد مرور ستين يوما من تاريخ الانضمام ويكون لها الحق فقط بملاحقة الجرائم التي تقع بعد ذلك أي لا تستطيع فلسطين المطالبة بإجراء تحقيق في الجرائم المرتكبة قبل ‏الانضمام, مثلا لن تختص المحكمة بملاحقة الجرائم الإسرائيلية التي وقعت في قطاع غزة في صيف 2014, لكن الفائدة من هذا الانضمام تكون وسيلة وقائية من أجل منع أو تخفيف الجرائم الإسرائيلية التي يمكن أن ‏ترتكب في الأراضي الفلسطينية مستقبلا. كل ذلك لا يعني أنها تباشر بالتحقيق فوراً، بل قرارها يعني صراحة قبول ولاية المحكمة على الحالة في فلسطين المحتلة وأملها بفتح تحقيق في كل الأراضي الفلسطينية ‏حول جرائم حرب ارتكبت وما زالت تُرتكب على أرض فلسطين، كما شهدنا طلبت المدعية العامة من الدائرة التمهيدية في المحكمة التأكيد على موقفها بان المحكمة تمتلك الولاية القانونية لفتح التحقيق، وتم ذلك في ‏‏2021 وبعد 4 سنوات لتقرير المدعية العامة الدولية. ‏
أما بالنسبة للجهات التي يحق لها تحريك الدعوى أمام المحكمة فهي ثلاثة: (1) حكومة الدولة العضو؛ (2) المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية من تلقاء نفسها دون شكوى من أي دولة بشرط أن تكون الدولة طرفا؛ ‏‏(3) من خلال مجلس الأمن بقرار يتخذه بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة إذا كانت الجرائم تهدد الأمن أو السلم الدوليين. في كل هذه الأحوال، يجب أن تكون الجرائم مرتكبة في أرض إحدى الدول الأعضاء ‏أو من خلال أحد مواطني دولة عضو.‏
‏ ‏بانضمام فلسطين للمحكمة الجنائية الدولية، تأملنا أن تستفيد فلسطين من الناحية السياسية من خلال الانتربول ومجلس الأمن بتوجيه أوامر إلقاء القبض على المجرمين الإسرائيليين من قبل المحكمة والتي يمكن لها أن ‏توجه أوامر القبض من خلال منظمة الشرطة الجنائية الدولية، الإنتربول، بدوره قد يرسل مذكرات الاعتقال لأجهزة الشرطة في كافة دول العالم، خاصة الدول الأطراف. كما يمكن لمجلس الأمن، بقرار يتخذه بناء ‏على الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، أن يطلب من المحكمة الجنائية الدولية أن تؤجل النظر في قضية ما مدة سنة قابلة للتجديد. لذلك يمكن لفلسطين أن تستخدم القضايا التي ترفع ضد إسرائيل للتفاوض عليها من ‏أجل الحصول على مكاسب سياسية (مثل إطلاق سراح معتقلين، تفكيك مستوطنات، عودة لاجئين، انسحاب من أراضٍ معينة) مقابل تأجيل أو إسقاط قضايا معينة من قبل المجلس. بعد الحرب على غزة عام 2008-‏‏2009، تم تقديم أكثر من 400 قضية (شكوى) فيها تهم جرائم حرب ضد إسرائيل.‏‎.‎‏ بالرغم من ان الانضمام للمحكمة يعني احتمالية ملاحقة بعض المقاومين الفلسطينيين بدعوى ارتكابهم جرائم لأن المحكمة لن تختص ‏فقط بالأعمال أو الجرائم التي تقوم بها اسرائيل، وإنما في اي مسألة قد ترقى إلى جريمة أو مخالفة للقانون الدولي الإنساني. كما ان ردود الفعل الأمريكية والأوروبية، بسبب انضمام فلسطين لها ضغوط واضحة على ‏السلطة الوطنية الفلسطينية تشمل التهديدات بقطع المساعدات المالية.‏

المحكمة لن تُشفي القهر والظلم الذي عانى ويعاني منه الشعب الفلسطيني، إلا أنه لا غنى عن الوسائل الدبلوماسية والقانونية ولا بد لنا من محاسبة المجرمين والمطالبة بالعدالة. اللجوء للمحكمة يشكل أداة ضغط سياسية ‏بالدرجة الأولى، خاصة بالجرائم المستمرة مثل جريمة الاستيطان والتهجير القسري والاعدام خارج نطاق القانون. من المفروض ان يشكل وسيلة لوقاية فلسطينيين من جرائم أخرى قد ترتكبها إسرائيل في المستقبل. ‏
المحكمة الجنائية الدولية ليست عصا سحرية، فالعلاقة جدلية ما بين سياسة القوة او القانون، ولكن لا غنى عن الادوات القانونية. رسالتي اليوم، لننظر للمحكمة الجنائية الدولية على أنها أحد أهم الوسائل السلمية إلى جانب ‏العديد من الوسائل الأخرى التي يتوجب علينا متابعتها، فهناك أدوات كثيرة يعمل الفلسطينيون من خلالها، فبالإمكان مثلاً ملاحقة إسرائيل من قبل المقررين الخاصين في الأمم المتحدة، وتقديم شكاوى بخصوص انتهاكات ‏لبعض الأحكام، مثل اتفاقية التعذيب، اتفاقية المرأة، واتفاقية الطفل، وأيضاً من خلال تقديم التقارير للجان الأمم المتحدة. ولكن جميع ذلك لا يؤدي إلى تأثير حقيقي على أرض الواقع ما دامت دولة الاحتلال تتمتع بحصانة ‏استثنائية، فالاتفاقيات بحد ذاتها لن تؤثر بشكل ملموس، وإن قد يكون لها تأثيرات من الناحية الرسمية، بمعنى تقديم تقارير للأمم المتحدة، تقارير وفقا لاتفاقيات حقوق الإنسان مثلا، دعوة الدول الأطراف في اتفاقية جنيف ‏الرابعة للانعقاد، كما يمكن اللجوء لمحكمة العدل الدولية في بعض المسائل مثل الطلب من المحكمة تحديد ما إذا كان هناك إبادة جماعية في فلسطين. كل هذه الوسائل مهمة نظريا وعملياً، ويجب عدم اهمالها, مهم ‏استثمارها بالتوازي مع المحكمة الجنائية الدولية‎.‎‏ ويتطلب ذلك توحيد الخطاب الإعلامي والقانوني وتجنب إسهاب وتضارب التصريحات وتركها للمختصين القانونيين من وزارة الخارجية الفلسطينية واللجنة الوطنية ‏العليا التي تضم كل الفصائل الفلسطينية بمختلف أطيافها وممثلي المجتمع المدني من حقوقيين وقانونيين بقيادة منظمة التحرير. كما قيل سابقا "إن أردت السلام عليك أن تعمل من أجل العدالة". الدعوة للتحقيق ‏والمحاسبة القانونية مهمة ولكن الأهم التنبه والرجوع لحقيقة ان الإرادة الدولية التي اوجدت دولة إسرائيل قبل ٧٤ عاما مطالبة أخلاقيا وقانونيا بإيقاف هذه الجرائم ومنح الفلسطينيين حقوقهم الطبيعية، بدءا بإنهاء ‏الاحتلال ومحاسبة إسرائيل من خلال العقوبات الفورية التي لا تنتظر قرار المحاكم. ‏
 

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر وكالة صدى نيوز.