مشاهد وشواهد..!!
تناولنا، في معالجتين سابقتين، كيف ولماذا صنع الفلسطينيون من شيرين أبو عاقلة أيقونة لهم، وما أثار البعض من لغط بشأن جواز «الترحّم» عليها. وموضوعنا، اليوم، ما تجلى من انفعال في ردةّ فعل الإسرائيليين، وحقيقة أن لا أحد في الكون يفهم الآخر أكثر منّا ومنهم.
بداية، لا أعتقد أن ثمّة مشاهد، أو شواهد، توثّق ردّة فعل الإسرائيليين أكثر بلاغة ودلالة مِنْ: أولاً، هجوم جنود بالخوذ، والسترات الواقية من الرصاص، والرشاشات، والقنابل المسيّلة للدموع، والرصاص المطاطي، والحي، والهراوات، على نعشها وحامليه في الجنازة. وثانياً، مسيرة ومظاهرة الأعلام في القدس، وفي أماكن أُخرى، بعد الجنازة، بطريقة تفضح، رغم الإنكار والتمويه، قدراً مُفزعاً من الغيرة ونزعة المحاكاة.
في المشهدين، والشاهدين، ما يُستَخلص، ويدل في جانب منه: لا على كيف يفهموننا وحسب، ولكن على ما يُولّد الفهم الواقعي، أو المتوهّم، من انفعال وأفعال تفضح علاقتهم بأنفسهم، أيضاً. علاقة تبدو، بدليل المشاهد والشواهد، مأزومة وهشّة تماماً.
وإذا شئنا صياغة مختلفة:
فلنتأمل شخصاً يملك رؤوساً نووية، يهجم مذعوراً على نعش في جنازة، ويضمد جراحاً نرجسية بعلم ومظاهرة، مفتوناً بما حصد من جوائز معنوية، وما أحدث من ضوضاء على الأرض، وفي اللغة. هذا الكائن خطر على نفسه وعلى العالم. لذا، في معالجة اليوم، ما يبرر الكلام عن تجليات للخطر. ولنقل إن في محاولة رصدها ما يدل، في أكثر من جانب، على طريقة فهمنا لهم، أيضاً.
أوّل، وأهم التجليات، بقدر ما أرى: أن ميل الإسرائيليين إلى التطرّف يوازي ميل الفلسطينيين والعالم العربي (أعني بلاد الشام والحواضر، وما عداها لا يُعوّل عليه) إلى الاعتدال، وأن هذا الميل يتعمّق مع مرور الأيام:
ففي الفترة ما بين 1948 ـ 1967 لم يُنفقوا على استثمارات كبيرة في مناطق سيطروا عليها عسكرياً، ولكنها لا تقع في حدود الدولة اليهودية حسب قرار التقسيم. وثمة علاقة عضوية بين طفرة الاستيطان، ونشوء حركة «أرض إسرائيل الكبرى»، وصعود معسكر اليمين القومي ـ الديني، وخروج مصر من الصراع بعد زيارة السادات للقدس 1977.
تشخيصي، بالعودة إلى نظرية جابوتنسكي الشهيرة عن الجدار الحديدي (وهي في الأصل لبن غوريون) أن في مقابلة الاعتدال بالتطرف ما يدل على فشلهم في استثمار الفوز. وفي أمر كهذا، بصرف النظر عن مبرراته، ما يقرع أكثر من جرس للإنذار.
ثاني تجليات الخطر: تكريس مفهوم «إدارة الصراع مع الفلسطينيين»، وإسقاط البحث عن حلول له من الحسبان، في مرحلة ما بعد انهيار أوسلو. وترجمة هذا كله بإغلاق الباب في وجه سياسات، ومبادرات، وخطابات الحل، بدلاً من الاستجابة الشكلية في الظاهر، والعمل على إجهاضها في الباطن، كما كان الشأن في مراحل سابقة.
ثمة ما يبرر القول إن عدم قابلية الصراع مع الفلسطينيين، في فلسطين وعليها، للحل، فكرة بنيوية في صميم مشروع الدولة الإسرائيلية، ويمكن التدليل عليها بشواهد من النصوص الأصلية، وكتابات المؤرخين. ومع ذلك، ما يعنينا، الآن، أن التعبير عنها مباشرة، أو مداورة، توازى على مدار عقود، مع مدى إحساس القائمين على مشروع الدولة بالضعف أو القوّة.
والمهم ألا نغض النظر عن كل محاولة لإضفاء قدر من الغموض، أو التباس المعنى، على «عدم قابلية الصراع مع الفلسطينيين للحل»، فالترجمات السياسية المحتملة للفكرة، بصرف النظر عن براعة أصحابها في التزويق والتلفيق، لا تتجاوز دلالة الأبارتهايد. وبناء عليه، بقدر ما كان «سلام إبراهيم» ترجمة لإحساس القائمين على مشروع الدولة بالقوّة من ناحية، كان ترجمة سياسية صريحة لفكرة الأبارتهايد من ناحية ثانية.
لا يتسع المجال، هنا، للبحث عن شواهد في قانون القومية، وتفشي عنف المستوطنين من «تخوم» و»براري» الضفة الغربية (التخوم والبراري تعبيرات شاعت في فترة التوسع في الغرب الأميركي) إلى النقب والمدن المختلطة، وارتفاع حدة وصخب ما يُعبّر عنه بعناوين من نوع: خطاب الكراهية، واستدعاء أشباح الحرب الأهلية، للتدليل على حقيقة أن الأبارتهايد يشمل الفلسطينيين ما بين النهر والبحر.
كل ما في الأمر أن إسقاط قناع البحث عن حل للصراع، ووضع قناع البحث عن طريقة لإدارته، لا ينفتح على زمن مطلق ومفتوح، طالما أن في المعادلة الديمغرافية ما بين البحر والنهر ما لا يمنح الإسرائيليين فترة سماح طويلة الأمد، تمكنهم من تجميد الميزان الديمغرافي، أو تحقيق طموح التفوّق العددي على الفلسطينيين.
لفترة السماح بالمعنى التاريخي، حتى وإن طالت، أجل معلوم ومحتوم. وبالقدر نفسه فإن تثبيت الميزان الديمغرافي، أو التفوّق على الفلسطينيين، مستحيل دون طرد أعداد كبيرة منهم، سواء في سياق حرب إقليمية بالتواطؤ مع قوى في الإقليم والعالم، أو في حرب أهلية على نطاق واسع. وقد يحدث الأمران معاً، في وقت واحد.
وإذا كان ثمة من دليل على ما يشكل الشخص الذي تكلمنا عنه من خطر على نفسه، وعلينا، وعلى العالم، فلنفكّر في كل ما تقدّم على خلفية مشهد: نرى فيه جنوداً يهاجمون نعشاً على الأكف والأكتاف، في المرّة الأولى، ويحرسون مستوطنين في مظاهرة، تحاكي نشيد ونشيج شعب، يمشي صاعداً درب الآلام في جنازة ابنته، فيرفعون أعلاماً تحميها رؤوس نووية، في المرّة الثانية. في هذا وذاك ما لو كتبناه بالإبر على آماق البصر، لكان عبرة لمن اعتبر.