لماذا المبالغة في أهمية زيارة بايدن؟
يبدو أننا نبالغ كثيراً حول زيارة الرئيس الأميركي إلى رام الله، ويبدو أننا «نرتاح» لهذه المبالغة!
الحقيقة أن الدلائل كلها تشي بأن هذه الزيارة ستكون أشبه بالخدعة الجديدة، وهي ليست ولن تكون في حدودها القصوى سوى محاولة أميركية جديدة معهودة من سياسة «إطفاء الحرائق»، أو العمل على إطالة أمد الإبر التخديرية التي دأبت الإدارات الأميركية على غرزها في الجسد العربي والفلسطيني كلما توتّرت الأوضاع، وكلما ظهرت في الأفق الميداني بوادر وتطورات من شأنها أن تنتقل إلى مواجهة شاملة في الأرض المحتلة، وباتت تتحول إلى مجابهة شاملة على امتداد فلسطين، كل فلسطين بصورة تكاد تكون حتمية وأوتوماتيكية.
إذا أردنا أن نتوقف عن خداع أنفسنا وهنا أجزم أن بعضنا لا يرغب بمثل هذا التوقف، فإن الإدارة الأميركية لا تُخفي نواياها ولا تتستّر على مواقفها، وهي ليست اتخاذ سياسات جديدة، بل هي ترفض علناً، جهاراً نهاراً أن تذهب إلى ما هو أبعد من «التأكيد» على أهمية «حل الدولتين»، دون أي التزام بالتصدي لإسرائيل التي تعلن من جانبها، علناً وجهاراً نهاراً أنها لن تقبل مطلقاً بهذا الحل، وأنها ـ أي إسرائيل ـ ستعمل كل ما في وسعها، وبكل الوسائل والإمكانيات لمنع هذا الحل، وتحويل «الواقع» في الأرض المحتلة إلى واقع يستحيل معه الوصول إلى هذا الحل، لا الآن، ولا في أي وقت قادم.
ليس هذا فقط، وإنما باتت ترفض مجرد الجلوس إلى طاولة واحدة مع القيادة الفلسطينية، وتشترط لمجرد قبولها بالجلوس معها ما يحوّل الأهداف والحقوق إلى ما هو أدنى وأقلّ من «حكم ذاتي» مقيّد، وتابع، ويتعلّق أساساً بظروف «عيش» السكان.
والأمر لم يعد يقف هنا، بل إن إسرائيل تمعن بصورة غير مسبوقة في الاستيطان، وفي الاستيطان الذي يهشّم الجغرافيا الفلسطينية، ويحول المعازل الفلسطينية المتناثرة بين المستوطنات والحواجز العسكرية إلى ما هو أبشع بعشرات المرّات من نظام للفصل العنصري، وإلى ما هو أبعد وأعمق من الاستعباد، وما هو أقرب إلى التطهير العرقي التدريجي المنظم في محافظة بئر السبع وجنوب الخليل، وفي كل الأغوار الفلسطينية من شمالها إلى أقصى جنوبها، إضافةً إلى الخطط التي تنفذها في مناطق أخرى، وخصوصاً في العاصمة الفلسطينية.
فماذا ننتظر من الإدارة الأميركية التي لم «تتمكّن» حتى الآن من فتح القنصلية المنشودة في شرق العاصمة الفلسطينية المحتلة، ولم يتجاوز موقفها حدود التأكيد على أن هذا (الهدف) العظيم! ما زال قيد التشاور.
باختصار، فإن الموقف الأميركي الذي ما زال «يُؤمن»! بـ»حل الدولتين» قد «تفوّق على نفسه» من خلال «التأكيد» على أن إلغاء فتح القنصلية ليس نهائياً، وأن الإدارة الأميركية ما زالت تبحث عن «الصيغة» المناسبة لمعنى ومغزى هذه القنصلية إن فُتحت.
الإدارة الأميركية ترفع منظمة فاشية إسرائيلية من قائمة الإرهاب، وهي منظمة تجاهر بفاشيتها فكراً وممارسة، وهي تقوم على مدار الساعة بأفعالٍ تتراوح ما بين القتل وحرق الفلسطينيين وأطفالهم وهم أحياء، وتحتفل بصورة علنية واستعراضية بذلك، وتمجّد إعدام عشرات الفلسطينيين وهم سجّد في مدينة الخليل.. الإدارة الأميركية هذه، هي نفسها ما زالت تغلق مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، والمنظمة هي نفسها التي وقّعت مع إسرائيل اتفاقيات أوسلو للمرحلة الانتقالية في حديقة البيت الأبيض بوجود كل دول ومنظمات العالم؟!
هل أعلنت الإدارة الأميركية موقفاً واحداً، مجرد موقفٍ واحدٍ يدلّ، أو يوحي، أو يشي، أو يومئ، أو قد يحتمل، أو ينطوي على تعهدٍ مهما كان عامّاً، وضبابياً، وحتى ملتبساً بأن في نيتها منع إسرائيل، أو الضغط عليها للتوقف عن أي من ممارساتها التي تحطّم وتهشّم وتمنع قيام دولة فلسطينية؟
وكيف ستقوم الدولة الفلسطينية، ومتى ستقوم هذه الدولة إذا كانت الإدارة الأميركية لا تفعل في الواقع سوى تشجيع إسرائيل على المضيّ قُدماً في خطط تدمير «حل الدولتين» الذي ما زالت «تؤمن» به الإدارة الأميركية؟
وباستثناء ما تردده الإدارة الأميركية حول «تحسين» حياة ومعيشة الفلسطينيين، وحول أنهم يستحقون العيش «بكرامة»، فهل «تجشّمت» الإدارة الأميركية، ولو لمرة واحدة عناء التفسير الأميركي لهذه الكرامة؟
الحقيقة العارية أن الولايات المتحدة تؤمن فعلاً «بالكرامة» التي يستحقها الشعب الفلسطيني، لكنها الكرامة القائمة على «تحسين» ظروف عيشهم، وعلى بعض مظاهر «الحكم الذاتي» المقيّد لا أكثر وربما أقل.
وبالمناسبة فإن هذا الرأي والموقف ما زال من الناحية الواقعية هو الموقف الغربي الحقيقي، حتى وإن كان البعض في الغرب الأوروبي يشدد على الحقوق الوطنية أكثر من البعض الآخر.
فهل تحوّلت مطالبنا من الولايات المتحدة إلى فتح القنصلية، وهل إعادة فتح مكتب المنظمة في واشنطن، وإعادة «الدعم» الأميركي تحوّلت بقدرة قادر إلى الإنجازات التي ننتظرها من هذه الإدارة؟، وهل كان إغلاق المكتب له سبب واحد؟
سأُغامر بالقول، إنه لولا الأحداث الأخيرة التي وقعت في الضفة والقدس تحديداً، ولولا آلاف التقارير التي وصلت إلى البيت الأبيض بأن انتفاضة شعبية عارمة ستندلع لا محالة في فلسطين، كل فلسطين، ولولا خوف الإدارة الأميركية من أن تؤدي الممارسات الإسرائيلية الهوجاء إلى اشتعال حرب جديدة قد تتطور إلى حرب كبيرة أو إقليمية لما «تلطّف» علينا الرئيس الأميركي بهذه «الزيارة» الميمونة، وهي على كل حال ستكون لمدّة لا تزيد على ساعة واحدة أو ساعتين لرفع العتب، بل وسأُغامر أكثر بالقول، إن هذه الزيارة ما زالت قابلة للإلغاء في أي لحظة، ولمجرد إقدام الجهات الرسمية الفلسطينية على اتخاذ أي خطوة، مهما كانت متواضعة، من الخطوات التي يُفترض أن نكون قد انتهينا من اتخاذها منذ أمدٍ بعيد.
الواقع أن الإدارة الأميركية كانت ستسعى وستحرص على زيارة أو زيارات لو كان الواقع الفلسطيني موحداً ومتماسكاً، ولو أن مواقفنا التي هددنا بها قد تم تنفيذها بحسمٍ وعزيمة، ولو كانت الألوف المؤلّفة تجابه الاحتلال في كل بقعة من فلسطين وعلى مدار الساعة.
لو أن الأمر كان على هذه الصورة والشاكلة لرأينا الغرب كله «ينهال» علينا، ولرأينا حجيجاً متتابعاً من المبعوثين والممثلين الدائمين والعاجلين، خصوصاً في ظل الأزمة المستعصية في إسرائيل، وفي ظل استمرار الحرب في أوكرانيا.
أما ونحن ما نحن عليه من انقسام وصراعات على السلطات، وما نحن عليه من ضعفٍ وهوان على مستوى البناء والمؤسسات، وما وصلنا إليه من مظاهر سلبية لا تليق بنا دون مراجعة أو تراجع، فإن الإدارة الأميركية لن تحترمنا أبداً.
إذا بقينا، وأقصد الجميع ولا أستثني أحداً عند الحدود التي نحن عليها فإن العالم وعلى رأسه الإدارة الأميركية لن ينظر ويلتفت إلينا إلّا باعتبارنا قضية محلية أو نصف محلية لا أكثر، وربما أقل.