حرب الشائعات بين ملهاة الفلسطينيين ومأساتهم
دارت في الأيام القليلة الماضية، وما زالت تدور حرب ضارية من الشائعات، استحوذت ـ وكان من الطبيعي أن تستحوذ ـ على اهتمام الناس بصورةٍ لافتة وواسعة في آنٍ معاً.
تمحورت هذه الشائعات حول صحّة الرئيس أبو مازن، وحول خلافة الرئيس، هذه الشائعات بدأت تتحدث عن صحّة الرئيس، وكأنّ الأمور قد وصلت إلى مرحلة "النهاية"، وهو ما فتح الباب مُشرعاً على مسألة الخلافة.
وهنا تحديداً دخلت الشائعات في "التفاصيل" التي وصلت وفق هذه الشائعات إلى "نقل" الصلاحيات، أو بعضها على الأقلّ، باعتبار أن هذا "النقل" بالذات هو جواز المرور "الأكيد"، وباعتبار أن الأمور تسير بهذا الاتجاه بعد دراسة ودراية وتمحيص، بما يوحي بأن كل شيء يسير وفق ما هو مخطط له، ووفق الطبيعي المتوقع والمنتظر.
أعقب هذا النوع من الشائعات، شائعات جديدة من نوعٍ "آخر" لكنه جديد ومختلف حول التغيير الحكومي الذي "أصبح" على الأبواب، وتمحورت الأمور حول "خليفة" رئيس الوزراء، وبدأت بورصة الأسماء بالتداول والتقاذف، ودارت التخمينات والتكهنات حول شخصيات مرشّحة، وحول أخرى سيتم ترشيحها لاحقاً، بعضها جديد، وبعضها الآخر سيعود من جديد.
وحول الشائعات من النوعين، وعلى المستويين جرى "الربط" ما بين التأثير الإسرائيلي على القرارات، والرغبات الأميركية إضافةً بطبيعة الحال إلى القبول والتقبّل العربي لها.
أمّا الجهة الغائبة المغيّبة في الحالتين كلتيهما فهي الجهة الأولى التي يفترض أن يكون لها القرار، ويفترض أن تكون الجهة الأولى صاحبة البتّ فيه، وهي الجهة الفلسطينية، سواء الرسمية أو الحزبية أو الشعبية، وهنا تكمن المفارقة الصارخة المرعبة.
لا أعتقد أن اللجنة التي شكلت لمعرفة مصادر هذه الشائعات ستهتدي إلى شيء جوهري قريب، ولا أعتقد أن يؤدي الأمر حتى لو عرفت مصادر هذه الشائعات إلى أي شيء جوهري يُعتدّ به.
أغلب الظنّ أن مصادر الشائعات هي فلسطينية، وهي مراكز قوى داخل حركة "فتح" وخارجها، تقاطعت مصالحها بالترويج لهذه الشائعات مع المصالح الهادفة إلى العبث بالساحة الوطنية، ولا أظنّ أبداً أن إسرائيل استهدفت من خلال "تدخّلها" في ترويج الشائعات إطلاق بالونات اختبار "لمعرفة" ردود الأفعال والقياس لاحقاً على حجم هذه الردود.
هذا لا يعني أن إسرائيل ليست معنية هذه المرة بمثل هذا الاستهداف، لكن الأمر في الحالة الجارية ليس من الطبيعة التي اعتدنا عليها من شائعات وفبركات نعرف أهدافها، ونعرف كيف يتم توظيفها وتسويقها.
لثلاث مرّات على الأقل شاركت بالنفي المطلق لتلك الشائعات الإسرائيلية، وعلى الهواء مباشرة، وبكثير من التحدي لوسائل إعلام إسرائيلية كانت تقول إنها متأكدة، وواثقة 99% من مصادرها حول صحّة الرئيس ووفاته، في حين أنّنا كنا نعرف ونتابع كيف أن وعكة صحية عادية يحولها الإعلام الإسرائيلي إلى "موتٍ سريري" مؤكد؟!
هذه المرّة المصادر ليست إسرائيلية، والأمر لا يتعدّى كونه تقاطعاً أو ركوب موجة، أو اقتناص فرصة، دون أن نغفل أن الجهات الفلسطينية التي روّجت الشائعات لا يستبعد أنها عن وعي وتخطيط سرّبتها إلى وسائل إعلام إسرائيلية لكي تنأى بنفسها عن "مسؤولية" الترويج، خصوصاً أن "المستفيدين" من هذه الشائعات قد لا يكونون هم أنفسهم من روّجوها، لأن الأمر ينطوي هنا على تعقيدات كبيرة للغاية، ولا يُنصح بهذا الإطار النظر للأمور في ظاهرها فقط، أو ما يبدو وكأنه ظاهرها.
مراكز القوى أصبحت تثقل كاهل الحال الوطنية، وهي مراكز مقتدرة على ما يبدو وفي مكانتها الاقتصادية والاجتماعية ومقتدرة في شبكة علاقاتها وتأثيرها داخلياً وفي المحيطين العربي والإقليمي، وصولاً إلى "حواف" الدولي أيضاً.
البعد الأخطر ـ كما أرى في كل ما جرى في الآونة الأخيرة ـ هو تغييب حقيقة الأزمة التي نمر بها، ومحاولة الإيحاء وكأن "حسم" خلافة الرئيس، وشخص رئيس الوزراء هو أزمتنا، وأن هذا الحسم بالذات هو الذي سيؤدي إلى التصدي لهذه الأزمة.
هذا كلّه تضليل، ولا يمتُّ للحقيقة بأيّ صلةٍ جوهرية.
الأزمة الحقيقية في الواقع الوطني هي استمرار الانقسام، وتحول هذا الانقسام إلى حالة "عادية"، من طبيعة الأشياء، بحيث أصبح الحديث عن استعادة وحدة المؤسسات الوطنية وكأنه شأن من شؤون الماضي البعيد، وهو يثير "السخرية" بحيث أن من يُشدّد عليه، ويُنادي به، ويؤكد على أهميته المفصلية المطلقة يبدو وكأنه من الحالمين الغارقين في غيبوبة سياسية أكل عليها الدهر وشرب.
وهنا لا تتم ملاحظة أن إسرائيل قد حوّلت بقاء الانقسام إلى أحد أهم قضايا "الإجماع" القومي، وتحول الصراع بين السلطتين إلى تنافس على مدى حاجة الإسرائيليين لهذه السلطة، أو تلك، بل وأحياناً يتم الإيحاء بأن هذا التنافس يؤدي من زوايا معينة، وفي لحظاتٍ خاصة إلى نوعٍ من إثبات الجدارة؟!
وهنا يتمّ الخداع والتضليل. كيف؟
هل كان يجب أصلاً أن يكون لدينا مشكلة كبيرة حول من يخلف الرئيس؟
ولماذا يجب أن يكون لدينا مشكلة من هذا النوع؟
لو كان لدينا نظام سياسي ديمقراطي، مكرّس وراسخ، هل كنا سنكون أمام "أزمةٍ" من هذا النوع؟
لو أن المنظمة قد تم إصلاحها، وأن السلطة قد تخصصت في مجالها، وأن مجالسنا الوطنية تعقد بانتظام، ودورات المجلس المركزي تسير وفق الأنظمة، وتخلّصنا تباعاً من نظام "الكوتا" الذي يكرّس من التنظيمات ما هبّ ودبّ، بل مما لا يهبّ ولا يدبّ في الواقع، ولو أن "تنفيذية" المنظمة هي القائد الفعلي للشعب، وهي السلطة العليا في الفترة الفاصلة بين اجتماعين للمركزي، فهل كنّا سنكون أمام أزمة خلافة أو أزمة شغور منصب الرئيس أصلاً، أو حتى تغيير الحكومة ورئيسها.
ما الذي منع حتى الآن من عدم وجود نائب مكرّس للرئيس ـ أقصد المنصب وليس الشخص؟، ولماذا عجزت اللجنة المركزية لـ"فتح" عن مثل هذا التحديد؟
ثم أين دور المنظمة والفصائل الرئيسة فيها من كل هذا المعمعان؟ ألا تبدو وكأنها خارج دائرة الاختصاص والاهتمام، وخارج نطاق البثّ والتغطية؟
وعودة سريعة إلى النوع الثاني من الشائعات حول بقاء الحكومة من عدمها؛ هل هناك تقييم واحد يُعتدّ به على الأداء يقف وراء تغيير الحكومات لدينا؟
ألم تحاول مراكز القوى الإطاحة بالرئيس أبو مازن عندما كان رئيساً للوزراء؟ كيف تمّت الإطاحة بحكومة "أبو علاء"، ثم بحكومة الدكتور سلام فيّاض، هل كان الأداء وتقييمه هما دافع الإطاحة به؟ أم أن مراكز القوى هي نفسها التي مهّدت وعملت على ذلك؟
وهل تمّ تغيير حكومة الدكتور رامي الحمد الله، والآن يجري الحديث عن حكومة الدكتور اشتية في ضوء تقييم رسمي معتمد من المؤسسات الفلسطينية؟
الحقيقة يا سادة أن البلاد "تغوص" في أزمةٍ عميقة بسبب غياب المؤسساتية، وبسبب تهشيم النظام السياسي، وبسبب استقواء السلطات على الجانبين بالرضا الإسرائيلي، وبسبب غياب المراجعة والتراجع، وبسبب غياب الديمقراطية هنا وتحريم الديمقراطية هناك، وبسبب نشوء طبقة سياسية من بيروقراطية السلطة (الدولة) في الضفة والقطاع مع رأسمال طفيلي ليس له علاقة بالرأسمال الوطني إلّا من حيث المجاملات السياسية، وأن هذه الطبقة تتغلغل في تلابيب ما تبّقى من النظام السياسي، وأنها هي من تدير اللعبة في البلاد وعلى العباد.
أزمتنا أكبر بكثير من قضايا وموضوعات الشائعات، وأعمق من "مرض" الرئيس، وشخصية رئيس الوزراء.