حين يكون الأقصى في دائرة الخطر
بينما تتصاعد وتتّسع دائرة الحرب الشاملة التي تشنّها إسرائيل على الفلسطينيين، حقوقاً وأرضاً، ومقدسات، وتتصاعد الرائحة الكريهة لسياسة التمييز والتطهير العرقي في كل زوايا فلسطين التاريخية، فإنّ المسجد الأقصى دخل فعلياً دائرة الخطر.
صحيح ما قاله السيد نبيل أبو ردينة، من أنّ ما يجري في ساحات الأقصى، ليس مجرد زيارات، وإنّما هي غزوات استعمارية.
علينا أن نعترف بحقيقة ما يجري، حيث تحولت الزيارات، إلى تقسيم زماني للمسجد، يزداد عدد المقتحمين للمسجد الأقصى، وأصبحوا يتردّدون يومياً، بين الساعة السابعة صباحاً حتى الحادية عشرة، بمشاركة وحراسة من الشرطة والجيش الإسرائيليين.
يجري ذلك، بينما لا تحصل القدس من العرب والمسلمين سوى على استمرار التصريحات، والإدانات النظرية، التي لا تدخل في حسابات الميدان.
تتجنّد إسرائيل بكامل طوائفها السياسية والاجتماعية والحزبية، وبكامل ترسانتها الشرطية والعسكرية والأمنية، لمواصلة تنفيذ مخططات تهويد القدس وفرض التقسيم الزماني والمكاني على الأقصى، وتصرف الحكومات الإسرائيلية مليارات الدولارات سنوياً، بينما تتفرّج الأنظمة العربية والإسلامية.
فلسطين قضية عربية إسلامية إنسانية، وشعبها لا يستطيع التنكّر لانتمائه العربي، ولكن أين هي الأمّة العربية، وأين هي الأمّة الإسلامية، التي أوقف معظمها الدعم المالي والمادي عن القدس والسلطة، والمجتمع الفلسطيني؟
أين هو الحراك العربي والإسلامي السياسي والدبلوماسي الفاعل على الصعيد الدولي، فيما تحظى إسرائيل بكل الدعم والحماية.
ألم يتحوّل بعض الأنظمة العربية والإسلامية إلى جملة الداعمين لإسرائيل، إقليمياً ودولياً، انطلاقاً من حسابات قُطرية ضيّقة؟
أين هي حركة التحرّر العربي، وقواها وأحزابها، وأين هو الحراك العربي والإسلامي للتعبير عن دعم القدس، وأصحاب القضية العادلة أم أن هذه الحركة تعرضت للتهميش والتغييب والقمع من قبل الأنظمة العربية الرسمية؟
لماذا يستمر الخطاب الفلسطيني في مجاملة العرب والمسلمين، والتغطية على سياسات الأنظمة والسباق على كسب وُدّها، بينما لا تبدي تلك الأنظمة استعداداً للاستجابة وإظهار الحدّ الأدنى من الوُدّ والدعم؟
القدس والمسجد الأقصى في خطر، ولا يقف في وجه هذا الخطر إلّا أهل القدس أساساً، وبعض القطاعات الشعبية، خصوصاً من الشباب.
المشهد يوم الأحد التاسع والعشرين من الشهر الماضي، كان محزناً، رغم أنه كان مشهداً إسرائيلياً انتصارياً بطعم الهزيمة، بدعوى فرض السيادة على القدس.
المشهد كان يؤكد أن القدس أرض محتلة، وأن دولة الاحتلال، قد عبّرت أمام كل العالم أنها دولة احتلال عنصري، يتحدّى القرارات والقوانين الدولية.
في ذلك اليوم تجنّدت إسرائيل بكل ما لديها من إمكانيات عسكرية وشُرطية، وأمنية، وسياسية، واستيطانية، لتحقيق ذلك المشهد الانتصاري المهزوم.
كما لو كانت إسرائيل في حالة حربٍ حقيقية، فلقد استنفر الجيش وواصل مناورة "عربات النار"، وكثّف طلعات الطيران، ونشر منظومة "القبة الحديدية"، على نحوٍ واسع، وكان ذلك دليلاً على الخوف الذي ينتاب الطبقة السياسية والمجتمع الإسرائيلي.
في الواقع فإن حكومة "الكوكتيل" الضعيفة، التي تحكم في إسرائيل، تنتمي عموماً إلى التيار الصهيوني الديني، الذي يفرض منطقه وسياسته رغم وجود كتل تدّعي انتماءها لليسار أو الوسط.
هذا التيار الذي يقوده بينيت، يحاول أن يثبت للطبقة السياسية والمجتمع الإسرائيلي أنه الأكثر تطرفاً، بين أطراف التيار اليميني المتطرف، وأنه يذهب إلى أبعد ما ذهبت إليه حكومات "الليكود".
هذه الحكومة الآيلة للسقوط في أيّ وقت، وفي أوقات قريبة تحاول إظهار تماسكها وقدرتها على المواصلة، عبر استخدام أقصى درجات التطرف والعنف، والعنصرية بحق الفلسطينيين.
حكومة بينيت يوم "مسيرة الأعلام"، استنفرت كل قدراتها وكانت مستعدة لكل الاحتمالات رغم أنها لا ترغب في أن تصل الأمور إلى حدّ الانفجار الواسع والكامل بما في ذلك دخول المقاومة في غزة على الخط المباشر.
الاستنفار كان بدوافع منع ذلك الانفجار، بما في ذلك من خلال استخدام الخديعة، مع الوسطاء الإقليميين والدوليين، الذين تدخلوا لمنع وقوع الانفجار.
وفي المقابل رفعت المقاومة في غزة سقف خطابها التهديدي للاحتلال، ليس بدافع الرغبة في الوصول إلى الانفجار الواسع وإنما لمنع إسرائيل من التمادي والخروج عن الخطوط الحمراء خلال "مسيرة الأعلام".
خرجت "مسيرة الأعلام" عن كل الخطوط، ولم ينفجر الوضع، بمعنى دخول المقاومة في غزة على الخطّ عَبر إطلاق الصواريخ، وكان ذلك أمراً محموداً.
حقيقة الأمر أن المقاومة في غزة جاهزة ومستعدة للمواجهة ولكن الظروف لم تكن لتسمح بذلك، ما يعفيها من النقد.
"مسيرة الأعلام" ليست المعركة الفاصلة، حتى يقرر الفلسطينيون خوضها ودفع الثمن مهما كان كبيراً، فالصراع مستمر لأمدٍ طويل ثم إن المجانين فقط هم من يفجّرون الأوضاع فيما إسرائيل تستنفر كل آلة الدمار التي تمتلكها.
قد تسقط الحكومة الإسرائيلية لو أن الانفجار قد وقع، ولكن أي حكومة ستكون بديلاً لحكومة بينيت، أم أن الجميع سواسية وعلى خط السياسات ذاتها؟
وبالإضافة إلى ذلك فإن غزة وحدها لا تستطيع تحمل أعباء المواجهة مع إسرائيل ومخططاتها العنصرية والتوسعية. غزة لها دور بالتأكيد ولكن أهل القدس لهم دور ويقومون به بجدارة، وأهل الضفة لهم دور، وكذلك الداخل الفلسطيني، وعليهم أن يقوموا بأدوارهم بجدارة، ولا يقتصر العدوان الصهيوني على القدس، فالحرب واسعة وشاملة، وعلى الشعب الفلسطيني أن يخوضها من هذا المنظور.