القدس هنا وفي الرباط
مقالات

القدس هنا وفي الرباط

قلتُ لصاحبي وأنا أحدثه: ما سرّ تألق العيون هنا وازدياد لمعانها، واتساع الابتسامة بشيء من النبل والشجن، بمجرد ذكر المدينة؟

سأحمل التساؤل، وأستدعي ذكريات زيارات ليس فقط بلادنا العربية والإسلامية، بل والبلاد الأخرى؛ حيث تشكل القدس طاقة جذب مميزة، من المهم لها ولنا أن نبني عليها، فما من مجمّع لنا جميعاً مثلها اليوم؛ فليست القدس فقط بحاجة لجهود محبيها، بل في العمق، فإننا في طريق خلاصنا الجمعي العروبي والإسلامي، بحاجة لها.
هنا، من أول مصافحة لوجوه الأشقاء المغاربة، وانتهاء بالوداع، ظلت القدس سبباً لإشراق الوجوه، فأيّ سحر للمدينة يحضر جالباً معه الفرح والأمل واطمئنان الروح!
هذا فعل جميل يطمئننا، فما زالت المدينة التي نسكنها وتسكننا جميعاً قادرة على الوجود بنفسها، بما تحمله من دلالات، سيصعب جداً إطفاء شمعتها المنيرة.
هناك في معرض الكتاب الدولي في الرباط، سنتحدث خمستنا، كل بمحبته وعينيه وثقافته، بانسجام هرموني ما بين توقير القدس لتتحدث عن نفسها من خلال أبنائها، ثم ليظهر عراقة وجود أهلها، فالمستقبل ودور الثقافة، وانتهاء بتعرية العنصرية المنطلقة من أحادية تنفي الجميع.
تمحورت الندوة حول «دور المراكز الثقافية في الحفاظ على هوية القدس.. المركز الثقافي المغربي نموذجاً»، لبحث ممكنات دور المركز الذي يجري تأسيسه؛ كون الثقافة والمراكز الخاصة بها تعد ضمانة إستراتيجية للمحافظة على القدس، عبر صون إرثها وعمرانها وتنوعها الإبداعي.
سنتحدث الخمسة، فهذا دكتور محمد الشرقاوي، المكلف تسيير وكالة بيت مال القدس الشريف، يبدأ حديثه بمحبة القدس، ومعرفتها، مؤثراً إيانا نحن، القادمين منها، لنتحدث، بعد أن يؤكد على رؤية هوية فلسطين والعروبة، رابطاً تاريخ فلسطين والمغرب، هو حديث عن ممكنات العمل، في ظل الاحتلال والتحولات السياسية، باتجاه التأثير في الأجيال الجديدة في ظل استمرار محاولات الاستلاب وسط حضور دولي غير فاعل.
يطل دكتور إسماعيل الرملي، المشرف على المركز الثقافي المغربي في القدس، علينا وعلى رواد معرض الرباط للكتاب، عن بعد من القدس، عبر تقنيات التواصل الحديثة، ليؤكد على منطلق القدس أصلاً كمركز ثقافي تعددي، عربي وإسلامي، ويصف لنا فضاءات المركز الثقافي المغربي، رابطاً دوماً بين البلدين، متحدثاً عن جمالية المواصفات المغربية التقليدية للمبنى، الذي يجمع بين الطابعين الفلسطيني والمغربي.
ثم ليأخذنا بروفسور، صلاح الهودلية عميد كلية الآداب التابعة لجامعة القدس، عالم التاريخ والآثار المعروف، إلى محطات تاريخية، واضحة تدل على أصل الرواية، التي تكشف بموضوعية تاريخ البلاد وأهلها، حيث يشكل البحث الموضوعي ضمانة للحفاظ على فلسطينية القدس وعروبتها، ضمن سياق تاريخي عام وثقافي وديني متعدد.
وعندما حان دوري، بدأت أولاً بتصوير ارتباك الإسرائيليين الواضح في القدس، وأن تمسك المقدسيين بمدينتهم هو أقوى فعل فعلاً. ولما كان الحديث عن المستقبل والجيل الجديد، فقد أشرت إلى أهمية استعادة الشباب بشكل خاص لدوائر الفعل الثقافي والتعليمي، من خلال بناء شراكات بين منتجي الثقافة والفنون، ليتم اختيار محاور محددة تغطي تاريخ القدس كل عام، ينشط خلالها الكتاب والسينمائيون والمسرحيون والفنانون التشكيليون والمصورون الفوتوغرافيون، بحيث يتم عرض المنتجات في فلسطين والعالم، أكان ذلك بنقل المعارض نفسها، أو باستخدام التقنيات المعاصرة.
أما المفكر الشاب والأكاديمي والروائي د. وليد الشرفا، فكان عمقاً ينشد عمقاً، كاشفاً نفي الإسرائيليين  لإدوارد سعيد، وما يشكل ذلك من دلالات لا منطقية، بسبب إصرار الاحتلال على رواية أحادية.
إذاً ثمة اتفاق على الدور الثقافي الإستراتيجي فلسطينياً وعربياً، ينبغي السير فيه، وتقديم استحقاقات ذلك.
سنشهد في اليوم الثاني حضور الشهيدة الإعلامية شيرين أبو عاقلة، من خلال تتويج الفائزين بجائزة القدس الشريف للتميز الصحافي في الإعلام التنموي في دورتها الأولى، التي حملت اسمها.
وتهدف هذه الجائزة، التي تندرج في إطار التعاون بين وكالة بيت مال القدس الشريف والمعهد العالي للإعلام والاتصال من جهة، ومعهد الإعلام العصري التابع لجامعة القدس من جهة أخرى، كما جاء في أدبياتها، إلى تعزيز وعي الأجيال الصاعدة في فلسطين والمغرب بالقضية الفلسطينية وتشجيع طلبة علوم الإعلام والاتصال في المغرب وفي فلسطين على إنجاز أبحاث ودراسات ذات صلة بواقع مدينة القدس ومستقبلها.
وستكون فلسطين والالتزام الثقافي والفني حاضرة من خلال تقديم شباب مغاربة وصلات غنائية من أغاني فيروز ومارسيل خليفة وآخرون، لنشهد مساء يحمل الأمل بمستقبل مشرق.
كان لجمهور الرباط فرصة التواجد في هكذا ندوات، حيث تم عقد معرض الكتاب هذا العام في العاصمة كونها اختيرت هذا العام عاصمة الثقافة الإسلامية، فالعادة جرت أن يكون المعرض في مدينة الدار البيضاء.
بالمجمل، فإن التركيز على القضايا الثقافية، وعلى الكتاب بشكل خاص، يمنح الثقافة والمثقفين دوراً حيوياً في النهوض والتحرر والتنوير، حيث تحضر فلسطين دوماً، ما يعني استثمار الحدث من أجل تحقيق الأهداف القومية، حيث ما زالت فلسطين وأحداثها جاذبة للفعل الثقافي وإقبال الجمهور العربي.
إن فهم سيكولوجية الجمهور في الإقبال على الثقافة وفلسطين، يقودنا هنا إلى الفعل والمشاركة، واختيار ما يليق ويناسب المكان من خطاب وأدبيات.
شخصياً، ستكون الرباط مجالاً لتذكر جائزة الرحلة، التي كنت ممّن حصلوا عليها قبل 13 عاماً، وسيكون من حسن الطالع تسليم جوائز هذا العام في معرض الرباط، حيث سنلتقي قامات من القائمين على الجائزة والفائزين، ممّن هم من محبي فلسطين ومناصري قضيتها.
يبدو أن مدينة الرباط قفزت قفزات ظاهرة حلال تلك السنوات الـ 13، فليس تأسيس مسرح، يعدّ من أكبر المسارح في العالم، إلا أحد معالم النمو الثقافي والعمراني في المدينة.
وهنا، ستحضر كلمات الصديق الشاعر المغربي حسن نجمي، وأنا أطل على نهر «أبو رقراق»، الذي يصب في المحيط الأطلسي، سنحضر ذكريات من 13 عاماً، وستحضر القدس كثيراً.
ولعلي أختم هنا، ونحن نتحدث عن القدس الثقافية، نستعيد ما ذكره الشاعر الكبير محمود درويش عن الشهيد ياسر عرفات:
«كان ياسر عرفات، الواقعي إلى أقصى الحدود، في حاجة أحياناً إلى تطعيم خطابه بقليل من البعد الغيبي، لأن الآخرين أضافوا إلى الصراع على الحاضر صراعاً على الماضي، بمحو الحدود بين ما هو تاريخي وما هو خرافي، ولتجريد الفلسطيني من شرعية وجوده الوطني على هذه الأرض. لكن البحث عن الحاضر هو شغل الناس وشاغلهم، وهو ميدان عمل السياسة، وعمل القائد المتطلع إلى الغد. وكان ياسر عرفات، الناظر إلى الغد، والعميق الإيمان بالله وأنبيائه، عميق الإيمان أيضاً بالتعددية الثقافية والدينية، التي تعطي هذه البلاد خصوصيتها، التعددية المضادة للمفهوم الحصري الإسرائيلي. وكان في بحثه الديناميكي عن الغد في الحاضر يبحث عن نقاط الالتقاء، ويشكل سداً أمام الأصوليات. لم يكن تدينه حائلاً دون علمانيته، ولم تكن علمانيته عبئاً على تدينه. فالدين لله والوطن للجميع».
ذلك هو الاستثمار الأخلاقي لما هو حق وموضوعي، فقد فهم القائد والشاعر، اللذان رحلا تاركين لنا ملامح الخطاب، حول فلسطين والقدس، خصوصاً في ظل حب الجمهور العربي لفلسطين، والمغرب العربي مثال جميل على ما نفكر به.

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر وكالة صدى نيوز.