أوكرانيا والاجتياح التركي الخامس لسورية
تَقرع تركيا طبول اجتياح خامس للشمال السوري، إن صدق أردوغان في وعده ووعيده، فإن أكثر من خمسين ألف جندي تركي، مدعومين بميليشيات حليفة تحمل اسم «الجيش الوطني»، سيندفعون صوب عين عيسى، عين العرب، تل رفعت، منبج، مينّغ، وسدّ تشرين، لبسط سيطرتها على معاقل رئيسة لقوات سورية الديمقراطية والحركة الكردية عموماً.
لا ندري بعد ما الاسم الذي سيختاره أردوغان لعمليته الجديدة، وهو الذي اعتاد اختيار أسماء لعملياته السابقة، تتناقض معانيها مع مراميها، لكنها انتهت جميعها إلى تمكين أنقرة من احتلال ما يقرب من تسعة آلاف كيلومتر مربع، أو ما يعادل تقريباً مساحة بلد كامل كلبنان مثلاً... عملية «درع الفرات - آب 2016» وانتهت إلى احتلال جرابلس والباب ودابق، عملية «غصن الزيتون - كانون الثاني 2018» وشملت عفرين وراجو وجوارها وعشرات البلدات والقرى، عملية «نبع السلام - تشرين الأول 2019» التي أدّت إلى احتلال رأس العين وتل أبيض وسلوق، وصولاً للطريق السريع «إم 4»، وعملية «درع الربيع - 27 شباط 2020» التي وسعت الجيب التركي الشمالي، وأعطت تركيا الحق في تسيير دوريات مشتركة مع القوات الروسية على امتداد الطريق «إم 4».
سببان رئيسان يدفعان بالسيد أردوغان وحزبه الحاكم، لتسخين خط الحدود، ورفع وتيرة التهديد بالحرب والتحشيد لها، وفقاً لكثرة من المراقبين والمحللين. أولهما: استشعاره بفائض قوة، ناجم عن إحساس عميق بحاجة الغرب والشرق لتركيا في اللحظة الأوكرانية الراهنة، فلا الولايات المتحدة وأوروبا و»الناتو» بوارد فتح مواجهة مع تركيا، فيما ينصرف جُل تركيزها ومواردها لهزيمة روسيا في أوكرانيا، ولا روسيا التي تعرف أهمية الأوراق التي تمتلكها تركيا، بوارد إزعاج الجار التركي المُتقلب، وبيده أوراق المضائق المائية والمجال الجوي والعلاقة الوثيقة مع أوكرانيا، والدولة التي إن نقلت البندقية من كتف إلى كتف، أحدثت فرقاً في سير العمليات العسكرية على الأرض، ولعبة عض الأصابع في ميادين الغذاء والطاقة والعقوبات.
وثانيهما: حاجة الرجل لـ»شد عصب» شعبه وجمهور ناخبيه، في لحظة اشتداد أثر التضخم وانهيار الليرة التركية وموجة الغلاء بالذات في سوق الطاقة، وشح المواد الغذائية وارتفاع أسعارها، والتي تضع جميعها أسهمه في انتخابات حزيران 2023 الرئاسية، في مهب رياح الغضب والمعارضة واليأس والإحباط. الانتخابات الرئاسية المقبلة، استحقاق مهيمن على سلوك أردوغان، ولا يمكن فهم استداراته المتلاحقة في سياسته الخارجية، ولا توجيهاته الاقتصادية والمالية، ولا حتى قراراته الأمنية والعسكرية، من دون ربطها جميعاً بهذا الاستحقاق الذي سيقرر – ربما - المستقبَلين، السياسي والشخصي للرجل.
على أننا، ونحن نرى أهمية السببين المذكورين ونوافق على كونهما يوفران الفرصة والحاجة للرجل لتجريب حظوظه لخوض غمار مغامرة جديدة في الشمال السوري، لا نسقط أبداً «سيناريو الإسكندرون»، والرغبة الدفينة التي تراود «العثمانيين الجدد» في إعادة إنتاج هذه السيناريو على امتداد الشمال السوري، وبعمق 30 كم في الداخل.
فلو أن درء «التهديد الإرهابي» المتمثل بحزب العمال ووحدات الحماية وقوات سورية، هو وحده ما يحرك الجيوش التركية جنوباً، لقلنا: إن لأنقرة ما يكفي من المبررات لفعل ما فعلت، وتكراره كلما اقتضت الحاجة ذلك، لكن تركيا تدرك تمام الإدراك، وقد أُبلِغت بذلك مراراً وتكراراً من موسكو، وعلى أرفع المستويات، بأن دمشق تشاطرها المخاوف ذاتها، وتتطلع لتحقيق الحلم ذاته: تصفية الكيان الكردي وبسط سيطرة الجيش السوري على الحدود الشمالية. إن أفضل حليف لأردوغان في مواجهة «الانفصاليين الكرد» كما يسميه لافروف، هو بشار الأسد، فلماذا لا يختار الزعيم التركي الطريق الأقصر لفعل ذلك، ولماذا توقفت استداراته التي شملت السعودية والإمارات ومصر وإسرائيل، عند دمشق، ولم تطرق أبوابها؟
أياً يكن من أمر، فإن مراجعة سريعة لتجربة الاجتياحات الأربعة الفائتة، تظهر حاجة أنقرة للحصول على الضوء الأخضر من كل من واشنطن وموسكو، أو واحدة منهما على الأقل، لتنفيذ عملية عسكرية واسعة في العمق السوري. وهذه المرة، تبدو تركيا بحاجة للضوء الأخضر من موسكو أكثر من واشنطن، كون المناطق التي تنوي اجتياحها تحظى برعاية الكرملين وتتواجد فيها وحدات رمزية من القوات الروسية، فهل منح لافروف القيادة التركية مثل هذا الضوء عندما زارها قبل أيام، وهل «تَفَهّم» الكرملين لمخاوف أنقرة، يعني منحها هذا الضوء أم أن وراء الأكمة ما وراءها؟
من الواضح تماماً، أن موسكو المتورطة من الرأس حتى أخمص القدمين في أوحال أوكرانيا، لا ترغب بالتورط في جبهة ثانية، بعيدة نسبياً هذه المرة، ولا تريد المقامرة بالجار التركي، وبالنسبة للكرملين، فإن أوكرانيا وليست سورية، هي أولويتها الأولى في هذه المرحلة، من دون أن يعني ذلك، أنها بصدد التخلي عن «مكاسبها» في سورية وتبديد حلمها بإبقاء أقدامها مغمورة في مياه المتوسط الدافئة.
لن يعني روسيا كثيراً، إن تمددت تركيا على مساحة أكثر قليلاً مما تمتلك هذه الأيام، سيما أن الطرف المستهدف بهذا بالاجتياح، «قسد»، هو حليف أعدائها الأميركيين والأطلسي، ولن تأسف كثيراً لفقدان طرف «متقلب» كهذا، هذا هو لسان حال اللاعب الروسي.
لكن أكثر ما يقلق روسيا، هو أن تنتهي العملية التركية الخامسة إلى مواجهة واسعة بين الجيشين التركي والسوري. أمرٌ كهذا محرج لموسكو، وقد يقوض مكتسبات السنوات السبع الفائتة في سورية. لذا فإن اختيار مسارات العملية وحدودها ومدياتها، هو ما سيقرر ما إذا كانت موسكو ستمنح أردوغان ضوءاً أخضر أم أحمر، أو حتى برتقالياً.
وستكون موسكو قد وضعت «أكراد سورية» في مواجهة مع أصدقائهم وحماتهم الأميركيين. ومن الواضح أن واشنطن وبروكسل، ليستا بوارد المقامرة بدفع تركيا أكثر صوب موسكو، إن هما عارضتا العملية التركية بقوة، وأردوغان وضع المسألة بكل وضوح: سنعرف من يتفهم الحساسيّات التركية ومن يهملها، وسنبني سياساتنا على هذا الأساس، في إشارة إلى الولايات المتحدة و»الناتو» ومحاولات السويد وفنلندا الانضمام إليه.
واشنطن عارضت حتى الآن أي تغيير في «الستاتيكو» القائم في الشمال السوري، لكن المعارضة اللفظية وحدها، لا تكفي لبث الطمأنينة في نفوس الأكراد، بدلالة أنهم يستجدون دمشق، تكثيف وجودها العسكري قبالة الحشود التركية، ويتعهدون بالقتال كتفاً إلى كتف مع الجيش السوري، والمعلومات تتحدث عن قنوات نشطة بين دمشق والقامشلي.
كيف ستدير واشنطن حرباً بين حليفين لها، وأي وزن ستعطيه لكل منهما، وهل ستقرر سياساتها وفقاً للأوزان المتفاوتة بين هذين الحليفين؟ وهل ستنحاز لصالح الحليف الأقوى حتى وإن كان متذبذباً ومتقلباً، أم لصالح الحليف الأصدق والأكثر إخلاصاً، حتى إن كان أقل وزناً وأضعف تأثيراً؟ هل يمكنها التوفيق بين مصالح متصادمة لهذين الحليفين؟ وهل يمكنها منع دمشق من «قطف ثمار» حالة الترك والتخلي التي قد يعيشها أكراد سورية؟ ثم، هل تصبح المواجهة الساخنة في الشمال السوري مدخلاً لواشنطن، لمعاقبة روسيا في سورية، من خلال استهداف حليفها في دمشق، وإضعاف صدقيتها أمامه، وترك «الفيل التركي» يعيث تكسيراً في دكان الخزف السوري؟
أسئلة وتساؤلات برسم الأيام المقبلة.