أزمة الحكم في إسرائيل: الأزمة التي لا حلَّ لها ليست أزمة!
قد لا يجد المجتمع السياسي في إسرائيل «حلاً» أفضل من هذا الحل، لأنه بكل بساطة لا يملك مثل هذا الحل!
وبالفعل، ماذا بوسع المجتمع السياسي في إسرائيل أن يفعل سوى أن يعتمد هذه القاعدة، أو أن يتدبّر أمره بهذه الحِكمة؟
كلما سقطت حكومة يذهبون إلى الانتخابات، وكلما ذهبوا إلى الانتخابات ذهبوا إلى أزمة تشكيل حكومة، وكلما شكّلوا حكومة تبدأ معركة سقوطها وتصدّع الائتلاف الذي يشارك بها، وما أن تتصدّع الحكومة، وينهار الائتلاف تبدأ معركة التحايل على القوانين والالتفاف عليها لكي لا تتمكن المعارضة من «الحكم» من دون انتخابات، وهكذا لا مفرّ من الانتخابات، ولا مفرّ من العودة إلى هذه الدورة السياسية الجهنمية في واقع الحال.
ومع أن المسألة هنا لا تنطوي على أيّ نوعٍ من الترفيه أو التسلية، إلّا أنّ الواقع السياسي في إسرائيل أصبح يراها كذلك، وأصبح المجتمع الإسرائيلي كله يدرك أنها لعبة سياسية سمجة، لكنها باتت «التسلية» الوحيدة المتاحة أمام حكم سياسي مأزوم، وأمام طبقة سياسية، وأمام نُخب إسرائيلية أغلبها فاسد ومفسد، وأكثريتها لا تُبالي بما وصل إليه واقع الحال في إسرائيل.
مجتمع سياسي يتمايز ما بين كل مكوناته، أو أغلبيتها الساحقة بالعداء للشعب الفلسطيني، في ظاهرة يبدو من خلالها هذا العداء هو العنوان الوحيد للتنافس السياسي الحقيقي، ويبدو فيه إظهار أكبر وأعلى درجة من الاستعداء هو المقياس الأهم «للوطنية» الإسرائيلية، وهو العنوان الأبرز في «معارك» الانتخابات، وفي كل أنواع الانحيازات والانزياحات والاستقطابات.
الغريب في أمر هذا المجتمع (العام والسياسي) أن اليمين يصبح أكثر يمينية، واليسار أقل يسارية، والوسط أقل وسطية عندما يتعلق الأمر بالشعب الفلسطيني وحقوقه، وعندما يتعلق الأمر «بأحقّية» اليهود في إسرائيل بالحصول على كل شيء من الأمن والاستقرار والازدهار بشروط متوافق عليها بأن يرتبط هذا الحصول بحرمان كل من هو فلسطيني منها، في معادلة تبدو فيها مقولة العنصرية عاجزة عن الإيفاء بالغرض.
العنصرية مهما بلغت درجة بشاعتها وقسوتها تبدو صيغة «مخفّفة» عمّا يجري في إسرائيل من ممارسات، وعمّا يسود من مفاهيم وشعارات.
من بين أبعادٍ كثيرة يبدو هنا، ويبرز البعد «النفسي» في محاولة تفسير الظاهرة إلى درجة أن هذا الإجماع حول علاقة تحقق شروط الأمن والاستقرار والازدهار «اليهودي» في إسرائيل الناجمة «بالضرورة» السياسية، والثقافية الأيديولوجية، والاقتصادية الاجتماعية عن حرمان الفلسطينيين منها تتفوّق بكل تأكيد على كل ما «أنتجته» البشرية من أفكار ومفاهيم في حقل الاستعلاء القومي والديني والعرقي، بحيث يتم التوغل والتوحش ظنّاً من المؤمنين به، والقائمين عليه بأن هذه المعادلة التي تطرد البعد الإنساني من كامل الفضاء المحيط هي المعادلة الوحيدة الممكنة لبقاء ووجود اليهود، وليس فقط لبحثهم عن وسيلة للعيش، وعن نمط معيّن لها.
بمعنى آخر ينحدر المجتمع اليهودي في إسرائيل، بتشجيع كامل، ورعاية «ميمونة» من مجتمعه السياسي بحيث أنه بات يحدد وجوده وبقاءه، وشروط حياته وأنماطها بانعدام توفرها للفلسطينيين!
هنا لم تصل العنصرية في أي مكان في العالم كما تصل الآن في إسرائيل، بعد أن تشاركت «وأسهمت» كحالة استعمارية، خاصة مع أنماط مماثلة لها في التطهير العرقي، والإبادة الجماعية، والقتل والهدم والتهجير والنهب والسرقة تماماً كما فعل المستعمرون الأوروبيون بالسكان الأصليين في أميركا وأستراليا وجنوب أفريقيا، وأميركا اللاتينية وكذلك في الجزائر وبلدان عربية وأفريقية.
وبالمناسبة فإن الغالبية الساحقة لهذه الظواهر المفزعة من الممارسات الاستعمارية تعود للأنجلو ـ ساكسونية في الواقع.
هذا هو الجانب المسكوت عنه بوعيٍ ودراية كاملة، وبما يشبه المؤامرة من قبل المجتمع السياسي في إسرائيل.
أقصد أن إسرائيل «تعتقد» أن بإمكانها الهروب والتهرّب من هذه الأزمة التي تعصف بها بوساطة تجاهل وتغييب العامل الفلسطيني في أزماتها، والذي كان (أي العامل الفلسطيني) هو السبب المباشر وغير المباشر، الصريح والمستتر، الصارخ والغامض في سقوط وانهيار الحكومات الإسرائيلية على مدار العقدين الأخيرين على الأقل.
العامل الآخر هو أن المجتمع السياسي في إسرائيل يحاول جاهداً ألا يعترف بطبيعة الأزمة الداخلية فيها، بالمعنى الضيّق والمباشر لهذه الأزمة، وهي الأزمة التي وصلت، وأوصلت المجتمع الإسرائيلي كلّه إلى الانسداد التاريخي الجديد للمشروع الصهيوني.
الوجه الأول لهذا الانسداد يتمثل بكون التعايش ما بين الجناح الديني المتطرف، وفي القلب منه جناح قوي ومتزايد النفوذ من القوميين المتدينين والمستوطنين، وغلاة العنصريين المتوحّشين باتوا يتعايشون مؤقتاً وتكتيكياً فقط مع بقية الأجنحة الأقل تطرفاً ـ حتى الآن ـ في اليمين وبعض الوسط، في حين يجاهرون بعدائهم لكل «اليسار» وبعض شرائح الوسط، وذلك على طريق فرض رؤاهم وأفكارهم على المجتمع دون تردد.
أقصد أن التعايش يصبح، وقد أصبح فعلاً في فترات معينة مستحيلاً بين كل هذه الأوساط وباقي المكوّنات الاجتماعية والثقافية الإسرائيلية، وكل تعايش هو مجرد مرحلة انتقالية ليس إلّا.
وثاني مظاهر هذه الأزمة أن العامل الأوّل سيؤدي إلى تصدّع البناء الديمقراطي ـ وهو بناء عنصري مؤسّساتيّاً ـ وسيؤدي إلى صراعات داخلية بدأ الكثير من «النخب» يتحدث عنه بكل وضوح.
وثالث مظاهر هذه الأزمة أن اليمين أصبح من القوة بحيث يمنع أي سلام، ومنع أي سلام يعني في الواقع الحروب والمذابح والإمعان في التوحُّش ما يعني المزيد من الانهيارات الداخلية، والدخول في انهيارات سياسية مع الخارج الدولي، وربما الإقليمي.
الحروب ستدمّر البنى الإسرائيلية، و»السلام» سيدمّر البنى الإسرائيلية و»التخلُّص» من الشعب الفلسطيني أصبح مستحيلاً سابعاً.
المفارقات التاريخية أن هذه الأزمات التي يعترف بها المجتمع السياسي، ويهرب منها المجتمع الإسرائيلي، وهذه المظاهر الفاقعة أزمة الحكم فيها إنما تأتي في ظروف فلسطينية مزرية من التفكّك والهشاشة، ومن الافتقاد لأدنى حدود المسؤولية الوطنية، والإمعان في لعبة الانقسام والاقتسام، والصراع بين سلطات ليس لها سلطات سوى ما يقبل به الاحتلال وما يُشرف عليه، كما يأتي في ظروف عربية هي حالة متكاملة من الانسحاق أمام المشروع الصهيوني، وحالة مذلّة من الانهيار والعدمية الوطنية والقومية، إضافةً طبعاً لعجز ونفاق المجتمع الدولي الرسمي على الأقل.
دعونا نتصوّر ولو للحظة [حالمة] ربّما، ماذا كان سيكون عليه الحال لو أن هذه الأزمة، أو بالأحرى مجموعة الأزمات الإسرائيلية كانت مترافقة ومتلازمة مع ظرفٍ فلسطيني فاعل ومتماسك، ومع وضعٍ عربي صامد في وجه الصلف الصهيوني؟!
وهنا نستنتج ما مفاده أن أي تغير حقيقي في الواقع الفلسطيني نحو التماسك الوطني، ونحو الفعالية الكفاحية، وأي تغير وتوقف لحالة الانهيار العربية ستحول الأزمات الإسرائيلية إلى عوامل حاسمة في استعادة الحقوق الوطنية، وفي وضع حدّ، وربّما حدّ نهائي ليس لطموحات المشروع الصهيوني، وإنّما لبقائه، أيضاً.