ما بين حِلفيّن ومحاولات اسقاط المبادرة العربية للسلام
تعود بنا الذاكرة اليوم إلى انشاء حلف بغداد عام ١٩٥٥ ، لم يكن جيلنا قد رأى الحياة حينها بعد ، لكننا كنا نسمع بعدها عن ذلك من الجيل الذي سبقنا ومن قراءات توفرت حول ذلك رغم قلتها في تلك الأيام وعن المظاهرات التي قامت في بلداننا تنديدا بهذا الحلف ولمنع انضمام دول أخرى له .
كانت الولايات المتحدة الأمريكية تسعى وبعد تراجع دور قوى الاستعمار التقليدية بالمنطقة ، إلى إيجاد حلف جمع حينها العراق وباكستان وايران وتركيا إلى مواجهة صعود حركات التحرر الوطنية بالمنطقة ومواجهة الدور السوفيتي في حينه ، وتثبيت دور أمريكيا السياسي والامني ومساندة قيام دولة إسرائيل الاستعمارية .
واليوم تسعى الإدارة الأمريكية مرة أخرى لكن في ظروف دولية مختلفة ، إعادة الروح إلى فكرة الحلف لكن بدول ومسميات جديدة ومنها قديمة . المفارقة بالامر أن إيران التي كانت تشكل العمود الفقري الأساس لحلف بغداد زمن الإمبراطورية أصبحت الآن هي المستهدفة من إقامة هذا الحلف الجديد طالما لم تصل إلى اتفاق مع الولايات المتحدة حول الملف النووي إضافة إلى موضوع قضية شعبنا الفلسطيني والموقف من دولة الاحتلال .
اما في هذا الحلف المنوي انشائه ، فسيكون لإسرائيل الدولة الخارجة عن القانون الدولي فيه الدور الأساس وستشكل هي العمود الفقري له بهدف استكمال بدايات مشروع الشرق الأوسط الجديد وما تبعه من تطورات غيرت وجه المنطقة واطاحت بعد. من كيانات الدولة الوطنية ، وإثارت اهتمامات جديدة واوليات قدمتها الولايات المتحدة منذ فترة على اهمية قضية شعبنا الفلسطيني لتسهيل تنفيذ هذا الحلف اليوم .
أن اتفاقيات ابراهام للتطبيع التي وقعت ما بين عدد من الانظمة العربية وإسرائيل برعاية أمريكية جاءت على حساب المبادرة العربية و لتمهد الطريق لتوقيع اتفاقيات أخرى مماثلة جديدة وهو ما يتصدر اهتمامات بايدن في زيارته القادمة للمنطقة وهو ما زال يمارس سياسة النفاق وازدواجية معايير الادارة الامريكية المعروفة ، وما مهد له من خلال الزيارات المكوكية التي يقوم بها عدد من المسؤولين الامريكيين وحتى العرب بين عواصم المنطقة التي شاب علاقاتها التوتر والتنافر خلال السنوات الماضية ، بهدف تمهيد الطريق لتأسيس هذا الحلف من خلال سياسات الترغيب والتهديد في ان واحد .
ملفات متعددة يجري البحث فيها الآن ضمن سياسات المقايضة في محاولة للحد من التناقضات وإيجاد قواسم العمل المشترك لخدمة أهداف هذا الحلف الجديد .
قضايا المياه بالمنطقة، الغاز ، أوضاع شمال سوريا وعمليات الاحتلال العسكري فيها ، ترسيم الحدود المائية في الاخحواض الاقتصادية الخالصة في شرق المتوسط ، الملف النووي الإيراني وتداعياته إضافة إلى الموضوع الأهم المتعلق بحاضر ومستقبل القضية الفلسطينية وما يجري في أوكرانيا من خلال حرب الوكالة التي يشعلها الناتو هنالك استهدافا للاستقرار الروسي ، تشكل اهم محاور النقاش رغم تضارب مصالح بعض الدول المرشحة للمشاركة في هذا الحلف بخصوصها .
من الواضح أن بعض هذه الزيارات قد اثمرت على طي صفحات من الخلافات السابقة بين عدد من دول المنطقة العربية وغير العربية بهدف تمهيد الأجواء لمزيد من التنسيق نحو انجاز هدف قيام هذا الحلف الجديد من خلال تمرير مصالح مشتركة لاطرافه المتوقعة وتخفيض حدة التناقض حول بعض القضايا المطروحة وتقديم دولة الاحتلال كرأس حربة عسكرية ، أمنية واقتصادية في هذا الواقع الجديد دون انهاء احتلالها .
لقد ارتكزت استراتيجية الأمن القومي الأمريكي خلال العقد الماضي على مسالتي الأمن والغاز بالمنطقة ، وكان من الضرورة لتحقيق تلك الاستراتيجية إثارة " الفوضى الخلاقة " من خلال ما سمي بالربيع العربي ، وما تبعها من نتائج وتداعيات ، وخلق عدو اخر للعرب تمثل باشاعة المخاوف من ما سمي بالعدو الفارسي والمشروع الإيراني ، رغم إنني اعتقد من أن مشروع دولة الفقيه بالمنطقة قد ابتداء منذ زمن إقامة الجمهورية الاسلامية بايران وقد يكون جرى باستغلال امريكي لضرب فكر حركة التحرر الوطني العربية واستبدالها بمظاهر اسلاماوية خدمة لمصالح إسرائيل التوسعية في ذلك الوقت .
الآن وقد مضى ٧٤ عاما على إيقاع الظلم التاريخي بحق شعبنا الفلسطيني و ٥٥ عاما من عمر الاحتلال العسكري ذو الجوهر الاستيطاني الاستعماري لما تبقى من أرض فلسطين التاريخية دون تطبيق اي من القرارات الأممية الأساسية المتمثلة اساسا بالقرار ١٨١ بخصوص إنشاء الدولتين وغيرها من القرارات التي عملت الولايات المتحدة وحلفاؤها على منع تنفيذها حفاظا على الدور الوظيفي الاستعماري المرتبط بإنشاء إسرائيل التوسعية ، فان الولايات المتحدة تسعى جاهدة بما تبقى لها من زمن الهيمنة وموقع شرطي العالم المتهاوي الآن على محاولة تنفيذ رؤيتها الجيوسياسية في منطقتي الشرق الأوسط والأدنى ، والمتمثلة اساسا في الحفاظ على دور إسرائيل الاستيطانية كيانا متفوقا في كافة المجالات وإداة لتنفيذ ما تبقى من استراتيجيات السياسية الخارجية للولايات المتحدة ومن أجل تحقيق رؤية الحركة الصهيونية بابعادها الدينية التوراتية وفق روايتهم إضافة الى المصالح السياسية الاقتصادية التي يبحثون عن قواسمها المشتركة في هذا الحلف ، الذي تتحدث عن تفاصيله التسريبات الأمريكية تمهيدا لزيارة بايدن الشهر القادم .
تلك الزيارة التي تأتي في خضم أوضاع اقتصادية واجتماعية من عدم الاستقرار والتراجع عن اسس انشاء الولايات المتحدة ، وفي وقت تشن فيه الولايات المتحدة حربها الثقافية والاقتصادية والسياسية ضد الشرق المتمثل في روسيا والصين وبدايات افول تأثيرها بالقارة الأوروبية وامريكيا اللاتينية أمام ما يجري من متغيرات سياسية لها علاقة بتداعيات العقوبات الأمريكية والناتو ضد روسيا وكذلك نتائج الانتخابات في فرنسا وكولومبيا وجاراتها التي سبقتها وما جرى بالأمس في بلغاريا وغيرها من خروج الشعوب الأوروبية عن صمتها بعد كل هذا الضرر الذي يصيبها الآن من السياسات الأمريكية ، ما يدفع بالنتيجة إلى عدم استقرار وحدة الاتحاد الأوروبي الذي تحدثت عنها في مقال سابق لي ، وعن عدم موافقة الشعوب الأوروبية أن تكون اراضيها مرة أخرى ساحة حرب عالمية بعيدا عن جغرافيا الولايات المتحدة كما جرى بالحرب العالمية الثانية حين لم تدفع أمريكا ثمنا غاليا بمقابل إسقاط الوحش النازي ، الذي اخذ اليوم يطل براسه من جدبد بمسميات مختلفة بدعم من اليمين الأمريكي والإسرائيلي معا إلى جانب الحركة الصهيونية العالمية وافرازاتها .
هذه الزيارة وما سبقها من تمهيد بزيارة مسوؤلي الخارجية الأمريكية للمنطقة بعناوين أصبحت واضحة ودون اي التزام بوعود سابقة قطعتها الإدارة الأمريكية المنحازة لأسباب محددات العلاقة مع اسرائيل ، سيتم خلالها ربما الإعلان عن هذا الحلف الجديد الذي لا أعرف ما سيطلق عليه من اسم ليحمل ولربما نفس أهداف حلف بغداد القديم الذي تهاوى أمام نهوض شعوبنا في مقاومته ، لكن باحلال الدور الإسرائيلي القيادي بدلا عن الدور الإيراني في عام ١٩٥٥.
سيكون المطلوب الآن وبوضوح إنهاء ما تبقى من تاريخ وتراث وفكر الحركة الوطنية الفلسطينية والمتمثلة في منظمة التحرير ومحاولة الضغط بكل الوسائل من أجل محاولات اسقاط تمسكنا بحقوقنا الوطنية الثابتة المتمثلة اساسا بحق تقرير المصير وإقامة الدولة المتواصلة والمستقلة على كل الأراضي المحتلة عام ٦٧ بما فيها القدس ، إضافة إلى حق اللاجئين بالعودة والتعويض وفق القرار الاممي ١٩٤ ، إضافة إلى محاولة الضغط أيضا من أجل تراجع أعضاء الحلف الجديد عن القرارات السابقة بالتمسك بالمنظمة ممثلا وحيدا وشرعيا لشعبنا والبحث عن من يحمل نيابة عنها الورقة الفلسطينية تمهيدا لتنفيذ مشروع تصفية القضية الوطنية القديم الجديد أو الوصاية عليها بمسميات مختلفة ويعتمد ايضا على انهاء المبادرة العربية للسلام من خلال توسيع اتفاقيات التطبيع والقفز عن ضرورة انهاء الاحتلال ، بما يتجاوب مع الإجماع الصهيوني بداخل الأحزاب الإسرائيلية حول هذا الأمر وما قدمته من رؤى لتصفية القضية وتنفيذ الترانسفير بأشكال جديدة تعتمد توسيع الاستيطان والضم والتهويد ورفع وتيرة الجرائم وإعادة طرح مشروع الوطن البديل وامارة غزة ، والتي افشلها شعبنا وقيادته التاريخيه وحركته الوطنية بصموده ومقاومته على مدار العقود الماضية ودفع اثمانا غالية من أجل الحفاظ على الأرض والهوية .
كل ذلك لن يدفع شعبنا وحركتنا الوطنية والتي كطائر الفنيق تنهض دوما من بين الرماد للقبول بما يخطط له معسكر أعداء شعبنا ، فحركة التاريخ السياسي لا تعرف السكون خاصة في ظل ما يجري من نهوض لقوى دولية جديدة وما يتحقق من انتصارات لشعوب عملت الولايات المتحدة وإسرائيل على محاولات اضطهاد حرياتها وابقائها تابعة في ظل أنظمة دكتاتورية فاسدة تدور بالفلك الأمريكي تتهاوى الآن.
فالنظام العالمي يمر بمرحلة مخاض جديد ستتغير وفقه اسس العلاقات الدولية بما سيحقق برأي وقف قمع الشعوب المستضعفة بالأرض وتحقيق الحريات والعدالة والسلم الدولي وانتهاء هيمنة القطب الواحد ، لذلك لا شيئ نستعجل عليه بمقابل اهمية ترتيب اولويات اوراقنا وتحالفاتنا ، وأمام سراب ووعود زائفة تستهدف وجودنا وكرامتنا الوطنية وحقوقنا الثابتة الغير قابلة للتصرف وفق حقنا التاريخي والشرائع الأممية والقانون الدولي ومبداء حق تقرير المصير .