بحجرٍ واحد بايدن يصطاد بضعةَ عصافير
بينما يقترب موعد زيارة الرئيس الأميركي للمنطقة، تكثر الأسئلة وتكثر التبريرات والتفسيرات التي تصدر عن مسؤولين عرب، مشمولين بالدعوة والحراك الأميركي، نحو عقد قمة في جدّة. ثمة من يفسر الدعوة لإقامة «ناتو شرق أوسطي»، على أنه لا يشمل التعاون العسكري، ولا يتخذ طابعاً عسكرياً هجومياً، وأنه مجرد عمل سياسي، يستهدف الاقتصاد والتنمية والأمن في المنطقة العربية.
وثمة من سيغطي مشاركته في حلف لم تكن الدعوة إليه عربية وإنما أميركية إسرائيلية، بالإكثار من الحديث عن القضية والحقوق الفلسطينية وتحريك عملية السلام.
التبريرات مكشوفة تماما، وإن كان ثمة ضرورة للتفسير من قبل العرب، فالصمت أفضل، لأنهم يذهبون إلى القمة بدعوة وترتيب أميركي، ولتحقيق أهداف رسمتها الإدارة الأميركية بالتنسيق الوثيق مع إسرائيل.
أوّلاً، «الناتو» تيمناً، بـ»الناتو الغربي»، أساسه وجوهره وأهدافه عسكرية أمنية، وهو يختلف تماماً عن التجمعات الأخرى: الاتحاد الأوروبي أو الدول السبع، أو اجتماعات العشرين أو غير ذلك.
«الناتو» نشأ في مواجهة الكتلة الاشتراكية، وحلف «وارسو»، اختفت الكتلة الاشتراكية واختفى «وارسو»، وبقي «الناتو» الذي يجري تعزيزه، وضمّ المزيد من الدول له، خصوصاً بعد الحرب في أوكرانيا.
و»الناتو» الذي يجري العمل لإقامته بمبادرة أميركية، ليس تكتلاً، أو صياغة عربية، فهو تحالف شرق أوسطي، ما يعني أن من العبث، إبعاد الشبهة عن وجود ودور إسرائيل في هذا الحلف.
ومن العبث، أيضاً، أن يعلن بعض من لا قدرة له على تحديد أهداف الحلف، بأن إيران ليست المقصودة، أو أنها ليست الهدف من هذا الحلف. إن كانت إيران ليست الهدف فإن إسرائيل ليست الهدف بما أنها جزء من التحالف، ولا نظن أن العرب قد قرروا الانحياز للغرب في مواجهة روسيا، بما يفرض عليهم الانضمام لنظام العقوبات الغربية، أو المجازفة، بمكانتهم ودورهم ومصالحهم في ضوء المتغيرات المرتقبة على النظام العالمي الذي يتجه نحو التعددية القطبية.
الحديث عن قمة بقيادة أميركية وشراكة إسرائيلية وفي الأساس عربية، لا يعني أن الطرق معبّدة تماماً أمام إمكانية تحقيق هدف إقامة هذا الحلف.
ثمة دول مثل الكويت مثلاً، لا تزال تعلن أنها تقاوم التطبيع مع إسرائيل، وأخرى تربط ذلك بشروط، فضلاً عن حسابات أخرى تتصل بالمصالح القطرية العربية في ظل تطلعات أميركية وإسرائيلية كبيرة.
مبدئياً، تشير كل المعطيات على أرض السياسة، أن لا الولايات المتحدة، ولا إسرائيل، مهتمتان عملياً بإحداث نقلة نوعية في سياساتهما باتجاه تعاطي مختلِف مع الملف الفلسطيني الإسرائيلي.
الإدارة الأميركية تكتفي بترديد الوعود، وتأكيد التزامها بـ»حل الدولتين»، وقد تنفذ بعض وعودها، ولكن دون فتح المسار السياسي، ودون أدنى استعداد للضغط على إسرائيل لفتح مسارٍ سياسيٍّ مجدٍ.
إسرائيل من ناحيتها، تغرق مرة أخرى، في أزمة نظامها السياسي، وتواصل رفضها فتح المسار السياسي، أو العمل من أجل تحقيق رؤية الدولتين، أو حتى التوقف عن ممارسة سياساتها وإجراءاتها العنصرية، والتوسعية الاستيطانية والتهويدية، أو التوقف عن سياسة هدم البيوت، وممارسة التطهير العرقي.
لم يتعهد ولا يملك أن يتعهد أي زعيم إسرائيلي في موقع اتخاذ القرار بأنه سيشق طريقاً مختلفاً في العلاقة مع الفلسطينيين وحقوقهم، ومن سيكون موجوداً في سدة القرار حتى إجراء الانتخابات العامة الخامسة خلال أربع سنوات، في الخامس والعشرين من تشرين الأول القادم، لديه ذريعة مكرورة، بأن الحكومة انتقالية، ولتصريف الأعمال فقط.
والحقيقة أن إسرائيل بمثل هذا الوضع، أو حتى لو أن حكومة بينيت بقيت على حالها، فإنها ليست مضطرة لخلق الذرائع بهدف التنصل من مطالبات، غير موجودة أصلاً، أو أنها مجرد لفظية إزاء ضرورة التوقف والتحول عن سياساتها المعروفة.
وبصرف النظر عن الصيغة، التي ستخرج عن قمة جدّة، وما إذا كانت مكتملة أو ناقصة، فإنها خطوة متقدمة على طريق تمكين التحالف، وتعزيز التمدد العسكري والأمني الإسرائيلي الذي حقق وجوداً فعلياً في البحر الأحمر، والمحيط الهندي، والخليج العربي، وكذلك تعزيز الدور العسكري والأمني الأميركي الذي يستند إلى قواعد منتشرة في أكثر من دولة عربية والمياه الإقليمية والدولية في المنطقة وحولها.
عدا ذلك، ماذا يريد بايدن من وراء هذه الزيارة التاريخية وذات الأبعاد القريبة والبعيدة؟
في الأساس فإن الولايات المتحدة هي صاحبة الدعوة والمبادرة، وهي صاحبة اليد الطولى، وصاحبة تحديد الأجندة والأهداف، ولكن دون تجاهل التنسيق عالي المستوى والعميق بينها وبين إسرائيل، التي تراكم المزيد من الإنجازات والتوسع الإقليمي.
تعلن الإدارة الأميركية، دون مواربة أو غموض أن الهدف الأول والمعلن لزيارة بايدن، هو حماية أمن إسرائيل وتعزيز وجودها ودورها وإقامة شبكة دفاعية جوية.
الحديث عن الحلف سابق لوجود هذه الإدارة، ولكنها مقتنعة بإقامته، ومقتنعة بتوسيع دائرة التطبيع العربي الإسرائيلي، وتعميقه في مختلف المجالات، وأولها المجال العسكري الأمني والتكنولوجي.
الإدارة الديمقراطية الحالية، تعاني من الضعف، وتراجع شعبية بايدن، بما قد ينعكس سلباً في الانتخابات النصفية لمجلسي الكونغرس التي ستجري في تشرين الثاني القادم، ولذلك فإن بايدن يحاول أن يحظى بإنجازٍ مهم من شأنه أن يساهم في استعادة بعض من شعبيته وشعبية حزبه.
مثل هذا الإنجاز، أيضاً، من شأنه أن يُقنع إسرائيل بتفعيل دور اللوبي اليهودي الصهيوني الأميركي، لدعم الإدارة الديمقراطية.
إلى ذلك، ثمة سعي أميركي حثيث، نحو إقناع الدول النفطية في الخليج لزيادة إنتاجها من النفط، ومشتقات الطاقة، لتعويض النقص في الأسواق العالمية بسبب سياسة روسيا في هذا المجال، وبهدف تخفيض أسعار النفط عالمياً.
مبدئياً، نقل الرئيس الفرنسي ماكرون إلى نظيره الأميركي بأن الإمارات لا تستطيع فعل ذلك، وأن السعودية، أيضاً، لا مجال لديها لزيادة الإنتاج بأكثر من مائة وخمسين ألف برميل.
مقابل ذلك، يعمل بايدن على الضغط على دول الخليج من خلال العودة للمفاوضات مع إيران، ولأن تحقيق تقدم سيعني تحرير النفط الإيراني، كبديل عن امتناع دول الخليج، عن رفع مستوى إنتاجها.
إلى ذلك، يسعى بايدن، أيضاً، لتوسيع دائرة تجنيد الدول لتنضم إليها في حربها على روسيا، وإقفال هذه المنطقة أمام دورٍ روسي أو صيني الآن ومستقبلاً.
هكذا يحاول بايدن أن يرمي أكثر من عصفور بحجرٍ واحد، ومع ذلك لا حاجة للحديث عن النتائج، لأن الحدّ الأدنى منها ينطوي على خطرٍ إستراتيجي على العرب.