رئيس وزراء للعطلة الصيفية فقط!
ها هو لابيد يبدأ «مشواره» كرئيس للوزراء في إسرائيل مكتفياً بأن تكون مدة رئاسته هي العطلة الصيفية للمدارس!
وها هو يبدأ هذا المشوار بالإقامة في بيت مسروق، تمت «مصادرته» بموجب قانون «أملاك الغائبين».
لا يشعر رئيس الوزراء «الجديد»، والأصحّ أن يُقال: رئيس وزراء العطلة الصيفية بأيّ حرج، كما لم يشعر من سكن هذا البيت أو استسكنه بالأحرى ممن سبقوه، وممن سيلحقون به.
لكن المثير هو الترتيبات التي تمّ اتخاذها لإسكان رئيس وزراء العطلة الصيفية على عجل في هذا البيت الفلسطيني المسلوب من عائلة فلسطينية معروفة ومعرّفة، وتضع لوحة باسم العائلة على البوّابة الكبيرة للبيت!
أيُعقل ألا يشعر رئيس الوزراء الجديد، صاحب الولاية المضغوطة، المقلّصة والمكبوسة بأيّ حرجٍ وهو يدخل بيتاً مختطفاً من عائلة فلسطينية؟ وهو الذي يرى في نفسه شخصية (متنوّرة، ليبرالية) أو ليست تقليدية من الزاوية الدينية أو الأيديولوجية بالمعايير المتعارف عليها في أي أوساط اجتماعية في أيّ بلدٍ في هذا العالم؟
يحق للتلاميذ في إسرائيل بدءاً من هذا العام، وبدءاً من السنة الدراسية القادمة الفخر والاعتزاز بأن صار لعطلتهم الصيفية رئيس خاص للوزراء، ويحقّ لعائلة سلامة في القدس أن تواصل حزنها على بيتٍ تمّت سرقته كما تمّت سرقة مئات آلاف البيوت الفلسطينية مع فارق أن دولة إسرائيل تذكّر هذه العائلة الفلسطينية بجريمة السرقة والسطو على منزل العائلة كلّما جرت انتخابات في إسرائيل، وكلّما اقتضت التدابير إسكان أحد رؤساء الوزراء في إسرائيل، وخصوصاً عندما تتم الأمور على عجل تماماً كما جرى مع القادم الجديد إلى هذا البيت العريق.
في إسرائيل يحدث من المفارقات، ومن الغرائب والعجائب ما سيثقل كاهل المؤرّخين، وما سيصعّب الأمور في المستقبل على الباحثين والدّارسين، بمن فيهم خبراء علم النفس الاجتماعي، كما في معظم أفرع وتفرُّعات العلوم الاجتماعية.
أمّا أوّل «خطاب» شاهدناه للقادم الجديد على البيت الفلسطيني في القدس فهو حكاية مستقلة بحدّ ذاتها.
الخطاب الذي دشّن به مساره السياسي المقلّص إلى أبعد الحدود كرئيس للوزراء هو التهديد والوعيد، ناصحاً كل من «يهمّه الأمر» بعدم «اختبار» إسرائيل، ووزع خطابه على إيران وسورية وغزة ولبنان، كل من جهته، ولم يبخل بنصيحته على الإقليم كلّه.
أين هي المؤشّرات على «اختبار» إسرائيل، حتى يدشّن رئيس وزراء العطلة الصيفية خطابه السياسي بها؟ وأين هي التهديدات التي تستدعي من الشخصية (المتنوّرة والليبرالية) أن يدشّن بها مساره في سدّة الحكم المكبوسة بشدّةٍ وإحكام؟
هنا لا بدّ من العودة إلى العبء الذي تحمّله إسرائيل للمؤرّخين ولعلماء العلوم الاجتماعية.
إسرائيل لا تواجه في الواقع تهديدات من هذا القبيل، إلّا إذا كانت تعتبر ــ والحقيقة أنها فعلاً تعتبر ــ أن من «حقّ» إسرائيل أن تهاجم إيران وسورية، وأن تدمّر لبنان، وأن تقصف السدّ العالي، وأن تحوّل الأردن إلى وطنٍ بديل للفلسطينيين، بما في ذلك التفكير بتهجيرهم قسراً إذا لزم الأمر.. وأن كل من يفكر بالتصدي لها، حتى بالوسائل العادية والمتواضعة التأثير، عليه التوقف عن ذلك لأن من شأن ذلك أن يستدعي الردّ الإسرائيلي الساحق الماحق!، وسيعتبر ذلك من قبيل «الاختبار» الذي يحذر منه رئيس وزراء العطلة الصيفية.
أمّا لماذا هنا بالذات علينا العودة لمشكلة العلوم الاجتماعية في المستقبل مع هذه الدولة الغرائبية فالسبب هو «أنّك» لا تستطيع أن تكون متنوّراً أو ليبرالياً في إسرائيل، مهما ادّعيت وأسهبت، وأطَلْتَ وقصَّرْتَ دون أن تحذو حذو كل متعصّب أرعن، وكل يميني متطرّف، وكل عسكرتاري مخلص في عداء واستعداء المحيط كله، ودون أن تذكّر الجميع بأن القوة، والقوة فقط، والقوة الغاشمة والمدمّرة هي المنطق الوحيد الذي تتعامل به هذه الدولة لكل من يحاول أن يقول: لا، مهما كانت ناعمة للهيمنة الإسرائيلية.
لا يستطيع أيّ رئيس وزراء، حتى لو كان للعطلة الصيفية أن يدشّن خطابه، ويعلن عن إشهار نفسه من دون أن يمرّ على تذكير المحيط بالقوة التي لن تُبقي ولن تذر!
العرب أو معظمهم على الأقلّ بات يرحّب بإسرائيل في النادي الشرق أوسطي، ويأتي الرئيس الأميركي ليبارك هذا الترحيب، وربّما يرسّمه، أيضاً، والعالم كله يغضّ الطرف ــ أو معظمه ــ عن كل الجرائم والموبِقات والكبائر التي تستمر في ممارستها.. ومع ذلك ليس لدى إسرائيل، على لسان رئيس الوزراء القادم (المتنوّر والليبرالي) سوى لغة القوة والسحق، وليس لديه كلمة واحدة حول التعايش أو السلام، ناهيكم طبعاً عن العدل والإنصاف، أو حتى منطق المصالح المتبادلة.
ولا يستطيع من الزاوية السياسية النفسية أيّ رئيس وزراء مهما كان عارضاً أو عابراً، ومحدود الصلاحيات، ومحكوما بسقفٍ زمنيّ لا يتعدّى عودة التلاميذ إلى مدارسهم أن يبدأ حياته من ذلك البيت الفلسطيني المسروق إلّا بعقلية الإنذار والإخطار، وبمنطق القوة الاستعمارية في صلفها واستعلائها، وفي منطق عنصريتها وبَغيها وشَراستها.
ولا يستطيع أيّ قادم جديد إلى ذلك البيت الفلسطيني العريق ــ وهو تحفة معمارية سبقت قيام دولة إسرائيل ــ إلّا أن يُجاري هستيريا السياسة المنفلتة من كل عقل وعقال، لكي يثبت أنه صهيوني متعصّب، لا تنقصه الرعونة المطلوبة، ولا يختلف مع عتاة المستوطنين والقوميين المتدينين سوى في بعض مظاهر الطقوس الاجتماعية !
أراد لابيد أن يقول للمجتمع الإسرائيلي إنه صهيوني غيور، وإنه يؤمن بالقوة والسحق، وإنه حريص أشدّ الحرص على كل من يحمل ثقافة الهيمنة والسيطرة علّه في ذلك يكسب بعض الأصوات الجديدة القادمة من أوساط اليمين الليبرالي في الانتخابات التي يجهّز نفسه وحزبه لها، بعدما قرأ الخارطة الانتخابية القادمة، وفهم أن لا مكان له في الحياة السياسية ــ بالمستوى الذي يستهدفه، وبالتأثير الذي يخطط له سوى أن يثبت للقاصي والدّاني أنه واحد من الذين سيؤرّقون الباحثين، وسيعقّدون حياتهم في غمار البحث عن مفارقات السياسة والثقافة في هذه الدولة الغرائبية والعجائبية إلى أبعد الحدود.
مجتمع سياسي مأزوم، وحالة هياجٍ سياسية، وهواجس ومخاوف من عودة نتنياهو، حالة من الشحن والاستقطاب ليس لها مثيل من التموضعات القومية الدينية العنصرية، ومستوطنون باتوا «البقرة المقدّسة»، وتحوّلوا إلى الحكّام الحقيقيين في دولةٍ لا يوجد فيها مؤشر طبيعي واحد على العقلانية أو الحكمة أو الفطنة من أيّ نوع.
حتى يوسي بيلين أصبح لا يملك شجاعة الحديث عن ترحيل مستوطنٍ واحد، وحتى أقطاب ما يُسمّى اليسار، وبعض رموزه الجديدة باتوا يرقصون على أنغام المستوطنين.
عندما يفقد المجتمع السياسي في إسرائيل كل أشكال «المقاومة» أمام مستوطنٍ واحد، وعندما يعتلي المستوطنون السدّة الحقيقية للحكم، وليس لفترة العطلة الصيفية، فمن الطبيعي أن يدشّن (الليبرالي المتنوّر) لابيد خطابه بالتهديد والوعيد، وبفبركة التهديدات واختراع المخاطر والتحديّات.
في مجتمعٍ كهذا، وفي حالةٍ هستيرية كهذه، وفي مثل هذا الهياج «الانتخابي»، وغير الانتخابي تصبح الأمور واضحة أشدّ الوضوح، ويصبح المستقبل الوحيد الممكن أمام هذه الدولة هو الانتقال النهائي المتدرّج بسرعة نحو نسخة جديدة من الفاشية.