الجزائر تعيد الاهتمام بملف الانقسام
ليس لأنها شقيقة فلسطين، فشقيقات فلسطين من الدول العربية كثر، بل لأنها عانت طويلا من الاستعمار الذي جثا على صدرها مئة وثلاثين عاما، ولأن استقلالها كان غالي الثمن، دفعت فيه مليونا ونصف المليون من الشهداء، لهذا تكن الجزائر كل مشاعر الأخوة الصادقة لفلسطين، كما تبادلها فلسطين شعبا وقيادة وفصائل كل مشاعر الأخوة الصادقة.
وتحتفظ فلسطين للجزائر بكل الذكريات الطيبة، فعلى أرض الجزائر الحرة المستقلة، انعقد الشمل الفلسطيني بعد خمس سنوات من الشقاق الداخلي من خلال المجلس الوطني التوحيدي الثامن عشر، ومن على أرضها أعلن الزعيم الخالد ياسر عرفات إعلان الاستقلال، وفي عيد استقلالها الستين، جمعت الجزائر كلا من الرئيس محمود عباس والوفد المرافق له، ورئيس حركة حماس إسماعيل هنية وعددا من رفاقه.
ورغم أن المشهد ليس جديدا، ولم يأت على كل حال، والحال الفلسطيني الداخلي في أسوأ أحواله، ذلك أنه رغم استمرار الانقسام الداخلي، إلا أن العلاقات الداخلية لا تشهد توترا أو تراشقا إعلاميا، كما كان يحدث في سنوات الانقسام الأولى، لكن المشهد جاء بعد ركود مستمر منذ أكثر من عام، على مياه المصالحة وإنهاء الانقسام، لدرجة أن الكثير منا اعتقد أن «إحباطا» قد وقع في نفوس الفلسطينيين جراء كل محاولات إنهاء الانقسام السابقة الفاشلة، وأن الجميع قد اعتاد الحالة القائمة، لذا فإن نجاح الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، بجمع الرئيس عباس ورئيس حركة حماس، وإن كان بمناسبة استقلال الجزائر، يعني إعادة التذكير بضرورة حل ذلك الملف، الذي دونه من الصعب أو حتى من المستحيل لفلسطين أن تحقق استقلالها وانعتاقها من ربقة الاحتلال الإسرائيلي.
ورغم أن الجزائر لم تعلن شيئا عما جرى حول هذه المسألة، بل إن الأقرب إلى المنطق هو أن طرفي المعادلة الداخلية، قد لبيا دعوة الجزائر بمشاركتها احتفالها بعيد استقلالها، نظرا لما يكنه عموم الشعب الفلسطيني من حب للشقيقة العربية، التي ما زالت ثابتة على عهدها بالوفاء لفلسطين، وأن التقاط الصورة التي جمع فيها الرئيس تبون، الرئيس عباس وهنية، ربما لا تكون أكثر من مجاملة، أو حتى هدية من قبل الرئيس الجزائري لشعبه الذي يتوق لتقديم كل ما يمكنه لفلسطين، وهو يدرك أنه ليس هناك ما أعز من إنهاء الانقسام على قلوب الفلسطينيين، في هذه الأيام التي تسبق عيد الأضحى المبارك.
لكن ولأن الجزائر التي تعلم مشقة التوصل لذلك الهدف الذي سبق لأكثر من عاصمة عربية، في مقدمتها القاهرة، أن سعت إليه دون جدوى، ورغم ذلك سعت الجزائر لاقتحام المستحيل منذ بداية العام، بدعوة الفصائل تباعا للبحث في هذا الملف، والذي كان يهدف إلى أن يتوج بلقاء القمة الداخلية، للإعلان عن البشرى السارة، بما يعني أن الجزائر لم تيأس بعد، وبأنها ما زالت تحاول، وها هي تعيد التذكير بهذا الملف بعد أن بدا أنه قد أدرج في طيات النسيان.
وإذا كان تجديد الأمل بإنهاء الانقسام صار صعبا، بعد كل ما جرى من محاولات سابقة، إلا أنه ليس هناك من بديل آخر، وإبقاء ذلك الملف قيد التداول يعتبر شيئا إيجابيا، بل إنه يعتبر ورقة سياسية بيد القيادة الفلسطينية بالذات، وهي تستعد لاستقبال الرئيس الأميركي بعد نحو أسبوع من الآن، وفي ظل الحالة الإسرائيلية التي عادت لتواجه الشلل الداخلي مجددا، وفي ظل رئاسة يائير لابيد للحكومة، التي تواجه التحدي الأهم، وهو أن تغادر مسار اليمين الذي أغلق أبواب الحل السياسي، منذ نحو عقد من السنين.
وفي الحقيقة فإن القيادة الفلسطينية التي تسعى منذ سنوات، من أجل إلزام إسرائيل بالاتفاقيات الموقعة بينها وبين م ت ف، هي بحاجة إلى ورقة ضغط تتجاوز أو تضاف إلى ورقة التهديد بإنفاذ قرارات المجلس المركزي، التي تتضمن سحب الاعتراف بإسرائيل، إلى حين أن تعترف إسرائيل بدولة فلسطين، وليس بمنظمة التحرير فقط، وإلى وقف كل أشكال التنسيق الأمني بين الجانبين، كذلك من أجل الضغط على واشنطن للوفاء بتعهداتها التي سبق لها وأعلنتها، والخاصة بفتح قنصليتها في القدس، وعودة التعامل السياسي مع م ت ف، كذلك دفع عجلة التفاوض مجدداً، وفق مسار الشرعية الدولية، وما هو منصوص عليه بالاتفاقيات بين الجانبين.
وليس هناك من ورقة أقوى من إنهاء الانقسام، وأشد حدة، على الجانب الإسرائيلي، والأمر مع الجزائر لا يبدو مستحيلاً، ذلك أن الشقيق العربي ليست له حسابات خاصة، يسعى إليها سوى أن يكبر بعيون شعبه، وليس سوى أن يرى فلسطين مستقلة، كما هو حال الجزائر، بعد طول مشقة وعناء.
ويمكن بعد أن جربت السلطة الفلسطينية محاولة فتح باب التفاوض دون «حماس»، وواجهت كل صد ورفض، ليس من قبل إسرائيل وحسب، ولكن من قبل إدارات البيت الأبيض الجمهورية والديمقراطية على حد سواء، وإن بفارق في درجة الصد فقط، وبعد أن جربت حماس مع تركيا وقطر، ومن قبلهما مع سورية وإيران كسر الحصار عن غزة، وثبت للجميع، أن اقتراب القدس والضفة الغربية من لحظة الانعتاق من ربقة الاحتلال في ظل الانقسام، إنما هو ضرب من ضروب الوهم والمستحيل، كذلك ثبت أن كسر الحصار عن غزة، دون عباءة م ت ف والسلطة والقيادة الرسمية، ما هو إلا وهم وذر للرماد في العيون.
أي أنه يمكن ولو من باب الحسابات السياسية الراهنة، وليس من باب الحسابات الوطنية بعيدة المدى، وفي ظل رعاية جزائرية، يجمع عليها كل الفرقاء الفلسطينيين، أن نقترب أو نحلم على الأقل، بالتوافق في الإطار الوحدوي العام، أي بتحقيق إنهاء للانقسام، ولو في الإطار العام، الذي يوحد الجغرافيا، ويجمع الفصائل، ولو بصيغة اتحادية وليس وحدوية فقط، خاصة وأن حماس نفسها قد أيقنت أخيراً بضرورة تحييد غزة ليس من دائرة اللهب مع الاحتلال وحسب، بل ومن دائرة الصراع الإقليمي أيضا.
يمكن التوافق على صيغة كانت متحققة، على كل حال، عشية الذهاب للوحدة الداخلية قبل وقوع الانقسام، وبعد أن دخلت معارضة أوسلو لدوائر السلطة في العام 2006، وانتهت بتشكيل الحكومة العاشرة، التي كان يترأسها إسماعيل هنية نفسه، وفي ظل الرئيس محمود عباس، مع تعديلات يمكن أن تحدث في تشكيلة الحكومة، حيث تكون مهمتها الحفاظ على غزة كرافعة للمشروع الوطني، بتنميتها وكسر الحصار عنها، وإطلاق المقاومة الشعبية بكل أشكالها في القدس والضفة الغربية، حينها سينطلق المارد الشعبي ميدانيا، وتنطلق نخبة الشعب الفلسطيني تقارع الاحتلال ميدانيا وسياسيا ودبلوماسيا وعلى كل الجبهات، بما يمكنه أن يغير من واقع الحال، ليس في فلسطين وحسب، ولكن بما يمكن معه أن يعاد ترتيب أوراق جميع اللاعبين الكبار والصغار في المنطقة برمتها.