بايدن يعود من جولته بخُفيّ حُنين
بعد أربعة أيام أمضاها في الشرق الأوسط، عاد الرئيس الأميركي إلى بلاده، دون أن يحمل معه شيئاً مهماً يذكر، يبرر به زيارته للمنطقة، التي جاءت بعد أكثر من عام ونصف العام على دخوله البيت الأبيض، في وقت يبدو هو فيه، كذلك حزبه الديمقراطي، أحوج ما يكونان إلى ما يدعم حظوظهما في الانتخابات القادمة، سواء نصفية الكونغرس قبل نهاية العام الجاري بالنسبة للحزب، أو انتخابات الرئاسة عام 2024 بالنسبة له شخصياً، وجلّ ما عاد به الرجل أو فعله في المنطقة هو توقيع بيان أو «إعلان القدس» مع يائير لابيد رئيس الحكومة الإسرائيلية، والمشاركة في إعلان جدة، الذي عبّر عن مجموعة دول مجلس التعاون الخليجي الست، بالإضافة إلى كل من العراق والأردن ومصر.
وأهم ما فاخر به الرئيس الأميركي نفسه، هو أنه كان أول رئيس أميركي يطير من إسرائيل إلى جدة في المملكة العربية السعودية مباشرة، في إشارة إلى أنه حقق إنجازاً لإسرائيل يتمثل في فتح المجال الجوي السعودي أمام الطيران المدني الإسرائيلي، ليمر عبره، خلافاً لما كان معمولاً به منذ العام 1948، وفي الحقيقة حتى هذا الإنجاز، بالنسبة لبايدن وإسرائيل، ما كان إلا عبر صفقة تضمنت مقابل فتح الأجواء السعودية للطيران المدني الإسرائيلي، موافقة إسرائيل على نقل جزيرتَي تيران وصنافير من مصر للسعودية، وذلك بسبب اتفاقيات كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل، فيما جاء نص القرار السعودي غير مباشر، بل عمل بالاتفاق الدولي للملاحة الدولية المسمى اتفاقية شيكاغو 1944، أي أنه لا يشير إلى كونه خطوة تطبيعية، أو أن الخطوة جاءت ضمن سياق تطبيعي، وأكثر من ذلك يعني الإعلان السعودي أنه يمكن للمملكة التراجع عن الخطوة ميدانياً بأي وقت.
وهذا ما أدركه الإسرائيليون أنفسهم، بعد أن كانوا قد رفعوا من سقف التوقعات أو التمنيات، من أن «يندلق» السعوديون نحوهم تطبيعياً، كما فعل من قبلهم أشقاؤهم الإماراتيون أو البحرينيون، ولم تكتف السعودية التي أبدت انضباطاً عالياً، قبل وخلال بدء جولة جو بايدن للمنطقة، وهي تتابع التوقعات والتصريحات الإسرائيلية، التي وصلت إلى محاولات عديدة، منها أن يرافق أحد المسؤولين الإسرائيليين بايدن للسعودية، وحتى حدوث مشاركة إسرائيلية رسمية في قمة جدة للأمن والتنمية، تمهيداً لإقامة «ناتو شرق أوسطي» يضم العرب وإسرائيل ضد إيران عند حدود إحباط التوقعات الإسرائيلية، بل يمكن القول: إنه مجرد أن وصل الرئيس الأميركي جدة، وكان في استقباله ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، قامت السعودية بابتلاع بايدن، وبدلاً من أن يقود الرئيس الأميركي القمة، شارك كمراقب دون أن يقوى على التأثير على القمة، بل وحدث العكس، حيث جاءت كلمات رؤساء الوفود، وكان كل منهم رأس هرم بلاده السياسي، أي ملوك ورؤساء وسلطان وأمراء الدول التسع، خلال القمة وكأنها بالضد من والنكاية في كل من بايدن وإسرائيل، أجمعت على الحديث عن الحقوق الفلسطينية، وقالت: إنه لا ضم لإسرائيل في الهيكل الإقليمي، دون إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة.
أما الأمير محمد بن سلمان، فقد أشفى غليله وغليل كل العرب من الرئيس الأميركي، حين بادر مستذكراً حديث بايدن إبان حملته الانتخابية، بقوله عن السعودية: إنها مملكة «منبوذة».. في إشارة إلى أنه على عكس ما فعل سابقه دونالد ترامب، سيقوم بمتابعة ملف جمال خاشقجي، حيث سارع الأمير السعودي إلى القول لضيفه: إن أميركا أخطأت في «أبو غريب»، وكذلك قامت إسرائيل بقتل شيرين أبو عاقلة، وهكذا فرض ولي العهد السعودي، منذ البداية، على ضيفه الأميركي صورة مَن لا يقبل إملاءات الآخرين.
وكان قد أتضح جلياً أن الرئيس بايدن قبل وصوله جدة، جاء راكعاً على قدميه لإسرائيل، يعلن حبّه لها، وتعهده بحمايتها عبر ضمّها لما سمّاه «الهيكل الإقليمي»، حتى توفر له الدولة العبرية ممر الخروج الآمن من المنطقة، بعدم الاستمرار في عرقلة التوصل لاتفاق العودة للاتفاق النووي مع إيران، لذا وقّع لها على «بياض» في إعلان القدس، ووزع الهدايا المالية أو الوعود يميناً وشمالاً، كأنه «بابا نويل» الذي جاء قبل أوانه، أو موعده، لكنه عاد في نهاية المطاف خالي الوفاض، ما أكد أن زيارته لم تكن ضرورية إلا بالنسبة لإسرائيل، حيث إن الرابح الأكبر كان يائير لابيد، في محاولته تعزيز حظوظه في الانتخابات الإسرائيلية القادمة.
أما في بيت لحم، وفي جدة، فلم يحظَ الرئيس الأميركي لا بالتوافق أو الاتفاق على شيء مهم، وحتى ما بدا له أو لإسرائيل كإنجاز لن يفيده بشيء، لا هو ولا حزبه، فقد سبقه ترامب بتقديم الهدايا تباعاً لإسرائيل، من تطبيق قرار الكونغرس الخاص بالقدس كعاصمة لإسرائيل، إلى الاعتراف بضم إسرائيل للجولان، إلى «صفقة القرن»، وحتى اتفاقيات أبراهام، لم تجدِ ترامب نفعاً في انتخابات الرئاسة 2020، أما بايدن الذي ظهر على عكس ما كان يقوله في حملته الانتخابية السابقة، بإعلان نيته الترشح مجدداً عام 2024، فلن يكون حظه أفضل من حظ الرئيس الديمقراطي السابق جيمي كارتر الذي عقدت اتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل في عهده، ولم ينجح في البقاء بالبيت الأبيض لولاية ثانية.
أما على صعيد قمة جدة، ورغم المسعى الأميركي، كذلك الصخب الإسرائيلي الذي سبق القمة، ورافق رحلة بايدن إلى جدة، فقد حدث العكس تماماً، حيث دفع كل القادة العرب التسعة المشاركين في القمة إلى التأكيد على الحقوق الفلسطينية، وإلى إدانة إسرائيل، وفي الوقت نفسه التأكيد على أن الأمن العربي ليس منوطاً بشراكة أمنية مع إسرائيل، وليس مقتصراً على مواجهة «أطماع» إيران في المنطقة.
لن يطول الوقت كثيراً حتى يعتبر بايدن نفسه أن زيارته، التي ربما تكون الأولى والأخيرة له كرئيس للولايات المتحدة، من ملفات النسيان، كما يقول عادة الخاسرون بشكل كارثي في مباريات كرة القدم، في حين يبدو أن الحزب الديمقراطي عليه منذ الآن، أن يفكر في مرشح بديل لبايدن الرئيس الأضعف منذ عقود، والذي سيخسر لا محالة في انتخابات الرئاسة القادمة أيّاً كان خصمه من الجمهوريين. وأهم من كل هذا وقبل كل هذا، مواجهة تداعيات فشل رحلة بايدن للشرق الأوسط على حربه ضد روسيا في أوكرانيا، والتي تمضي قدماً على طريق تسجيل فشله الأهم والأكبر؛ بعد خروجه المهين من أفغانستان.