لوين رايحين؟
الاعتداء على مسرح عشتار ورموزه الفنية وضيوفه خلال فعاليتهم قبل أيام، ومنع الفنان بشار مراد من إقامة حفل فني في مساحة ثقافية حرة - المستودع -. وإذا ما أضيف للحادثتين المؤسفتين أحداث جامعة النجاح، وإعلان الحرب من بعض مجموعات وقوى سياسية ضد اتفاقية «سيداو» ورموز نسوية فلسطينية، كل هذا وغيره أثار الحزن والقلق والخوف وجعلنا في حالة متردية. الاختلاف والتعدد في القضايا السياسية والثقافية والاجتماعية أمر طبيعي أو كما قال الشاعر «الضد يُظهر حسنه الضد».
لا يجوز إخضاع طرف لآخر أو إقصاء المختلف الذي له رأي آخر، بدعوى تهديد منظومة القيم وأخلاقيات المجتمع. فالقيم والمبادئ والأخلاق لا تهتز ولا يصاب أصحابها بالذعر لمجرد وجود مختلفين وآراء أخرى. وغالبا ما تتفوق قيم الحرية والعدالة على الاستعمار والمستعمرين، وتتفوق حقوق الإنسان على العنصرية والاستبداد، ودائما تتفوق العلوم على الجهل والارتجال. يستحضرني تجربة المعتزلة في ممارسة الاختلاف كما ورد في كتاب «الحق في الاختلاف» للكاتب المغربي «علي أومليل». حين سمحت المدرسة الفكرية للمعتزلة في زمن الخليفة المأمون بنشر الرأي الآخر المختلف أولا، وبعد ذلك يتم نشر الرد عليه ويكون المستمع أمام رأيين، ليس هذا وحسب بل كان مفكرو المعتزلة يحظرون الاستقواء بنصوص من القرآن والحديث بشكل مباشر في سجالاتهم، كي لا يكون النص المقدس بديلا عن إسهامات جديدة وعن دور الأفراد في فهم الظواهر وفي تطوير الفكر، فقط يستطيعون الإفادة من النصوص بشكل غير مباشر. ما حدث ويحدث في فلسطين في هذه الآونة نموذج مختلف عن هذا التراث الجميل.
التعامل السلبي مع قضايا الخلاف والمختلفين والذي يصل أحيانا إلى حد إقصاء المختلف، يقود إلى نتائج سلبية، وخطيرة أحيانا. كالارتجال في وضع المعايير وأدوات القياس، وتغليب الأيديولوجيا على العقل، وعدم الاكتراث بالعلم والعلوم الإنسانية والمكتشفات والنظريات الحديثة بل ومناصبتها العداء ورفضها كونها متناقضة مع تفسيرات بشر سابقين للنصوص الدينية. على سبيل المثال، معظم بنود «سيداو» غير متناقضة مع العدالة ومكارم الأخلاق التي دعت لها النصوص، الاستثناءات القليلة متعارضة مع تقسيم العمل المجتمعي الماضوي بين الجنسين، والذي تجاوزه الواقع بانتهاء عهد العبودية والإماء. جوهر اتفاقية «سيداو» يعبر عن حاجة نصف المجتمع الفلسطيني لإزالة كل أصناف التمييز ضد النساء، وهذا يعبر عن مصلحة فلسطينية خالصة. الاستعاضة عن المحاججة بمواقف رافضة أو مواقف مؤيدة، هو عكس ما نحتاج إليه من سجال بهدف إزالة التمييز والظلم المجتمعي لتقوية الشعب في معركته ضد الاستعمار و»الأبارتهايد».
المسألة الإشكالية الأخرى هي «المثلية»، حيث يقدم البعض مفهوما مخالفا للتعريف الذي قدمته منظمة الصحة العالمية للمثلية والذي أعادها إلى عوامل بيولوجية مستقلة عن رغبة أو عدم رغبة البشر. ولأن الرؤية لهذه الظاهرة جديدة ومحط خلاف وجدل، فقد بلغ عدد الدول التي رفضت هذا التفسير 69 دولة وتتبع إجراءات قانونية ضد المثليين والمثليات فضلا عن وجود 11 بلدا يتعرض فيها المثليون للحكم بالإعدام.
أما الحديث عن تحويل المجتمعات قاطبة إلى المثلية، وتفكيك الأسر، واستخدام المثلية كأداة سيطرة وهيمنة ثقافية على المجتمعات، كل هذه الاعتقادات هي تقديرات غير صحيحة، وتهويل غير مسنود بأدلة. ما نعوزه هو نقاش التوصيف العلمي الطبي البيولوجي، والوصول إلى نتيجة إما متوافقة مع المرجعية العلمية العالمية وهذا لا يعني تحول المجتمع إلى المثلية والانصياع لإرادة الغرب الاستعماري.
إن وجود معايير وقانون وحاجة المجتمع لحماية وسيادة القانون، يطرح دور السلطة التي يقول نظامها الأساسي إنها تملك القوانين وتملك تفويضا للدفاع عنها وعن النظام. يتوفر لدى السلطة النظام الأساسي وعشرات المعاهدات والاتفاقات الدولية التي اعتمدتها بعد موافقتها على بنودها ومبادئها. هذا يفترض توفر الشرط الأول، لكن الشرط الثاني المتمثل بحماية القانون وضمان الالتزام به وتطبيقه، هذا الشرط غير متوفر. ومن مظاهر ذلك افتقاد الشرطة والأمن واجب المعرفة بالقوانين وثقافة القانون كحقوق الإنسان وحقوق النساء والأطفال وحرية التعبير والاحتجاج وأهمية الرأي العام. لقد أدى فقر المعرفة إلى ممارسة انتهاكات عديدة بعضها وحشي، وهذا يعكس انتماء الشرطة والأمن الفلسطيني لنظام غير ديمقراطي. وفي الوقت الذي يُخصص فيه الجزء الأكبر من موازنة السلطة لأجهزة الأمن، لا يجد المواطن الأمن والأمان لقاء الضرائب التي يدفعها. مظاهر أخرى للاختلال تبرز في التعايش مع الانتهاكات ذات الطابع العشائري، حيث تتولى عائلات نافذة إقامة القانون باليد ومن طرف واحد، وكأن السلطة غير موجودة، وفي معظم المرات يكون الحضور العشائري على حساب السلطة وقوانينها والغريب أن ذلك يتم بموافقتها. كما نرى فإن الفراغ الناجم عن عجز السلطة اجتماعيا تملؤه العشائر والعائلات، والفراغ الناجم عن عجز السلطة في توفير أمان المواطن ضد الاستباحة الإسرائيلية يملؤه المسلحون وبخاصة في مخيمات جنين ونابلس وبعض البلدات والقرى.
ويترتب على فقدان السلطة لمسؤوليتها ظهور أدوار مجموعات ومراكز قوى، كما حدث في فض فعاليات واحتفالات واحتجاجات عشتار والمستودع وجامعة النجاح والمنارة. كانت الجهة المسؤولة عن المنع أو الموافقة على الفعاليات - السلطة - متفرجة عاجزة وشاهد زور، وكان العنف اللفظي والجسدي والإهانات والاتهامات الممارسة تعبر عن الدرك الأسفل الذي وصلنا إليه.
أخطر ما في الأمر، أن الانتهاكات تجر انتهاكات تلو أخرى ولا يصار إلى الاعتراف بالأخطاء والمحاسبة عليها ما يفتح الشهية على المزيد. وعندما يسقط الرأي العام من حسابات الحكومة بوصفها المسؤول الأول عن المواطن، نكون في طريقنا إلى الهاوية.