صك الانتداب ومحاكمة بريطانيا
ربما لم تجرم دولة أو جهة بحق شعبنا بعد الحركة الصهيونية وعصاباتها التي تحولت إلى دولة أكثر من بريطانيا. وربما أحد أبرز المآخذ على النضال الوطني الفلسطيني عدم ملاحقته فعلياً لبريطانيا على جرائمها بحق شعبنا. صحيح أن الحركة الصهيونية هي من قتلت وشردت شعبنا ولكنها فعلت ذلك بتسهيلات غير مسبوقة في التاريخ. لقد أمسكت بريطانيا شعبنا من رقبته وساقته عنوة إلى مذبح الصهيونية ووضعت رأسه بين متوازيين وأعطت السكينة للجزار. أي بشاعة تلك. إننا بقدر ما يجب أن نواصل نضالنا من أجل الحرية واستعادة البلاد بقدر ما يجب أن نناضل من اجل محاكمة بريطانيا على هذه الفعلة الشنيعة.
وربما الأكثر إيلاما أن بريطانيا كانت وما زالت أكثر الدول تطرفاً ضد حقوق شعبنا. لقد تجاوز الصلف البريطاني كل حد. فالدولة التي أعطت وعداً مشؤوماً بقتلنا وقتل البلاد وتسليمنا مكبلين للصهيونية واحتلت البلاد من اجل ذلك وأصدرت صكها المشؤوم المعروف بصك الانتداب ثم مكنت المستوطنين الغرباء وسلحتهم ودربتهم وانسحبت في التاريخ الذي باتوا فيه جاهزين لذبحنا وتهجيرنا من بلادنا، هذه الدولة حتى اللحظة لا تعترف بحقوقنا السياسية، بل هي غير مستعدة لمجرد التفكير في الاعتراف بأي شيء سياسي لنا، مثل الاعتراف بحقنا في دولة والاعتراف في تلك الدولة ولو حتى على 21% من الأرض التي ساهمت في سرقتها وتدميرها وقتل أهلها. أظن، والظن من باب الجزم، أن أسوأ محكمة في التاريخ لو وضعنا قضاتها من طغاة العالم ما كانت لتقبل أي عذر قد تقدمه بريطانيا على جريمتها الشنيعة، الجريمة التي ما زال أحفاد أحفاد المواطنين العزّل الذين ذبحوا وهجروا بقرار بريطاني وتنفيذ صهيوني يعانون تبعاتها حتى اللحظة. ربما لن يتسع أي نظام قضائي عرفه البشر لبشاعة ما ارتكبته بريطانيا بحقنا. البشاعة التي تزداد يوماً بعد آخر وتلك الدولة التي دمرت بلادنا تواصل عنادها في رفض الاعتراف بحقوقنا السياسية وبالدولة الفلسطينية. جريمة مركبة صار عمرها، الآن، اكثر من قرن من الزمن وتواصل بريطانيا وحكامها ممارستها ببشاعة غير موصوفة في قواميس اللغات.
لا يمكن لعاقل أن يصدق مثل هذا الصلف وهذا العناد وهذا النكران لحقوق الآخرين. هل يكشف هذا أن ما قامت به بريطانيا شيء غير مأسوف عليه بالنسبة لها، بل إنه دُبر بليل، وإنها قامت به عن قناعة. نعم، لم يكن ما تم في "سايكس بيكو" ولا في وعد بلفور ولا في صك الانتداب ولا في قرار التقسيم ولا دعم دولة إسرائيل في كل المحافل الدولية كما في السلاح، لم يكن كل هذا صدفة ولا شيئاً غير مقصود. بل كان شيئا مقصودا ومدبرا ومخططا له وتم بمتعة.
أمس، صادف مرور مائة عام على استصدار عصبة الأمم لصك الانتداب وهو الصك المشؤوم الذي سعت بريطانيا لاستصداره من أجل إعطائها الحق القانوني في حكم فلسطين وبالتالي تشجيع الهجرة الصهيونية إليها وتسليمها جاهزة مجهزة للحركة الصهيونية بعد سلب سكانها الأصليين كل مقومات الحياة وتمكين المغتصبين الجدد. هذا الصك هو رابع خطوة شيطانية تقوم بها بريطانيا في طريق سرقة البلاد (نعم فبريطانيا هي من سرقت بلادنا هي والحركة الصهيونية) منا وكان أولها اتفاقية سايكس بيكو التي قسمت فيها المنطقة العربية بينها وبين فرنسا وأصرت واستماتت من أجل أن تأخذ فلسطين تحت حكمها لتمرير مخططها، وتمثلت الخطوة الثانية في وعد بلفور المشؤوم الذي أعطت فيه نفسها الحق في إعطاء البلاد للغرباء، والثالثة كانت احتلال فلسطين من قبل الجنرال اللنبي حيث بالنسبة له فإن احتلال فلسطين يعني تحضير البلاد للصهيونية. والخطوة الرابعة في منح نفسها تفويضاً دولياً لتجهيز البلاد ومن ثم تسليمها للمستوطنين الغرباء أو ما يعرف بصك الانتداب. وبعد ذلك بالطبع استصدار قرار التقسيم وتسليم البلاد للغرباء.
هذا ما حدث. لا يمكن تجميله. ولا يمكن لمؤرخ أن يخفف من حدة ما وقع. جريمة متكاملة الجوانب. ومع ذلك، تواصل بريطانيا نكرانها لكل حقوق شعبنا. ولا يجد شعبنا بالمقابل منها غير الجحود والمزيد من الظلم والبطش من خلال عدم الاعتراف به وبحقوقه السياسية وبدولته حتى لو كانت تلك الدولة على 21% من أرض آبائه وأجداده. ظلم غير مسبوق. ثمة تحرك باتجاهين يجب القيام بهما. الأول مواصلة الضغط لدى أصدقاء الشعب الفلسطيني في بريطانيا وهم كثر من اجل ممارسة المزيد منه على البرلمان والحكومة في لندن للاعتراف بالدولة الفلسطينية وتجنيد قدراتها من أجل إنهاء الاحتلال. بمعنى لا يكفي بريطانيا أن تعترف بالدولة الفلسطينية بل إن هناك واجباً أخلاقياً يلزمها بالنضال ضد دولة الاحتلال التي صنعتها من أجل إنهاء هذا الاحتلال. نعم، عليها أن تجند كل طاقاتها في معارك الشعب الفلسطيني نحو الحرية لأنها ساهمت في ضياع حريته بشكل أساسي.
ويتمثل الاتجاه الثاني في إما اعتذار بريطانيا العلني رسمياً للشعب الفلسطيني والإقرار بأن كل ما قامت به كان مجحفاً بحقوق شعبنا ومخلاً بكل الأعراف أو الذهاب نحو مقاضاة بريطانيا في المحاكم الدولية ووقتها يجب عدم الاكتفاء بالإدانة بل بطلب تعويض عن كل ما ألمّ بشعبنا جراء سياساتها حتى بيوت عوائلنا التي دمرتها القوات البريطانية في قمع ثورة 1936 وغيرها يجب حصرها. هذا جهد كبير لكنه واجب بدلاً من الخطابة والبلاغة. هناك من اشترك في ذبح شعبنا وعلينا في ظل هذا التنصل الوقح لحقوقنا أن نلاحق الجميع قانونياً، لأن أحداً يجب أن يقف مطأطئ الرأس ويقول، إنه يعتذر عن كل الألم الذي سببه لشعبنا. فشعبنا الذي عانى من إجحاف المجتمع الدولي على الأقل يستحق هذا الاعتذار.
ملاحظة واجبة: يجب ألا تكون هذه الأفكار موسمية بل يجب أن تتم مأسستها والعمل عليها.