وقف الحرب والعسكرة والتسلّح أولاً
الاختلاف حول الحرب الأوكرانية كشف عن مشكلتين أساسيتين. الأولى كانت حول المعلومات ومصادرها ودقتها، وتحديداً لجهة اعتماد أنصار روسيا للرواية الروسية من مصدرها الوحيد: وزارة الدفاع والناطقين باسمها، أو اعتماد الرواية الأوكرانية وامتدادها الأميركي الغربي. لو كنا في زمن المعتزلة لحُظر اعتماد الروايتين من أي سجال أو مناظرة بين المتحاورين. وفي حين أن الرواية الروسية واحدة وحيدة في تقديم الأحداث وتطوراتها، وبلغ الأمر حد منع وسائل الإعلام الروسية والإعلاميين من تقديم أي معلومة أخرى تحت طائلة السجن لمدة 15 سنة، ما دفع آلاف الإعلاميين والحقوقيين الروس إلى مغادرة روسيا، وإغلاق مؤسسات إعلامية وحقوقية. مقابل ذلك توجد داخل الرواية الغربية مواقف مناهضة للحرب وضد التصعيد الأميركي، وتوجد وفرة من المعلومات من مراكز اختصاص مهنية، وتوجد مواقف مبدئية لبعض القوى السياسية. في التطبيق استندت الرواية الروسية إلى إنكار وجود قومية أوكرانية، كما ورد في خطاب بوتين الذي أعلن الحرب، وضم دونيتسك ولوغانسك في الدونباس باعتبارهما جمهوريتين شعبيتين تحت الرعاية الروسية، واستبدال جوازات السفر الأوكرانية بالروسية لاحقاً. تقول الرواية الروسية: إن نسبة الأوكرانيين من أصل روسي تبلغ 40%، في حين تقول معظم المعلومات المتوفرة على "غوغل": إن نسبة الأوكرانيين من أصل روسي بلغت 17% مقابل الأوكرانيين 77.8%، وما تبقى ينتمون إلى إثنيات أخرى من أصل مجموع السكان البالغ عددهم 42 - 44 مليون أوكراني. ويوجد 5 - 6 ملايين أوكراني يعيشون في روسيا. إن إنكار القومية الأوكرانية موقف قومي شمولي إقصائي لا يمكن تبريره بوجود مؤامرة، وهو يفسر تطويع المعلومات ووضعها في خدمة الإنكار والاستباحة والتطهير العرقي. وتذهب الرواية الروسية إلى تعظيم الخطر الأوكراني الذي بات يهدد روسيا بدعم من الناتو، وتصفه بالخطر النازي، وبأنه بات يشكل خطراً على حياة الأوكرانيين من أصل روسي. وهنا لا يمكن الدفاع عن نظام زيلينسكي وإجراءاته القمعية وفساده، ولا عن قراراته في منع اللغة الروسية واجتثاث الشيوعية، ولا عن دور القوميين الأوكرانيين في نشر التعصب ضد روسيا وارتكاب جرائم حرب بحق مدنيين، ولا عن الدعم الأميركي لتلك السياسات.
كل ما سبق أجّج الصراع، لكنه لم يكن كافياً لشن حرب مدمرة جلبت الويلات للشعب الأوكراني، وبمستوى أقل للشعب الروسي وشعوب العالم. كانت روسيا تتطلع إلى مد نفوذها في أوكرانيا، ونجحت في إيصال مؤيدين لها في البرلمان، وفي الرئاسة الأوكرانيَّين الرئيس فيكتور يانوكوفيتش في انتخابات 2010، وكان شكلاً من التنافس السلمي داخل المجتمع الأوكراني. ولكن عندما أيقنت روسيا أن نفوذها في أوكرانيا تضعضع وجرى ترسيمه بمجموعة من التغييرات الدستورية، التي لعب اليمين القومي المتطرف دور المبادر لها، عندئذ لجأ بوتين للقوة باحتلال شبه جزيرة القرم في العام 2014. كان ذلك امتداداً لما حدث في الشيشان وجورجيا وبيلاروسيا، وغيرها من الدول والمناطق التي استعادتها روسيا بالقوة وأخضعت شعوبها. اعتمد بوتين خيار القوة في السيطرة على البلدان والشعوب التي خسرها الاتحاد السوفياتي بعد انهياره في العام 1991. حاول في أوكرانيا التنافس مع معارضيه، وكان يملك مؤيدين بلغت نسبتهم 34 بالمئة من المستَطلعين في أوكرانيا، اعتبروا أن التغيير في السلطة "انقلاب مسلح غير شرعي"، بينما اعتبر 56 بالمئة منهم أنها "ثورة شعبية". وواقع الحال كان مزيجاً منهما.
ما يجري في أوكرانيا يعيدنا إلى سؤال: هل من حق القومية الأقوى السيطرة على جاراتها الأضعف تحت بند تعزيز نفوذها الإقليمي والدولي؟ كان هذا الحال في عهد الإمبراطورية القيصرية، وتبدل الأمر ما بعد ثورة أكتوبر البلشفية، والاشتراكية السوفياتية، وبعد اعتماد مبدأ الأممية البروليتارية. ولكن حتى في التجربة السوفياتية التي افتقدت الديمقراطية، شهدت التجربة هيمنة القومية الروسية، المعززة ببيروقراطية شديدة لم تترك هامشاً للاحتجاج المطلبي. فقد قمع الجيش الأحمر كل محاولة للتغيير من قبل شعوب المجر وتشيكوسلوفاكيا وبولندا وداخل روسيا وأوكرانيا. واعتبرت كل المطالب المشروعة مؤامرة إمبريالية. المراجعة التي قدمتها البيريسترويكا السوفياتية اعترفت بكم هائل من الاختلالات الفادحة. وتعرض الأدب لهيمنة الحزب ولدوره في طمس الشخصية وتنكره لأبسط الحقوق الإنسانية، كما فعل ميلان كونديرا في رواياته: "المزحة"، و"خفة الكائن الذي لا يحتمل"، و"الحياة في مكان آخر". لكن حتى البيريسترويكا اعتبرت مؤامرة من الرئيس غورباتشوف بالاشتراك مع الدوائر الإمبريالية، واعتبر كونديرا وغيره من المثقفين والأكاديميين ثورة مضادة وعملاء للغرب. إزاء ذلك لم يكن من باب الصدفة ذهاب كل دول أوروبا الشرقية إلى الاتحاد الأوروبي والناتو، وتقديم نموذج بائس في التنكر للأدوار المشرقة في التجربة الاشتراكية، كالتضامن مع الشعب الفلسطيني والشعوب الأخرى. هذا السؤال لم يطرحه المؤيدون لروسيا السوفياتية ولا لروسيا البوتينية على حد سواء.
لقد ضمت روسيا الشيوعية دول أوروبا الشرقية بالحرب، وكان ذلك في سياق هزيمة النازية، والآن تعود روسيا البوتينية لضم بعض الدول بالحرب ولكن في سياق الانتماء لنظام العولمة الرأسمالي المتوحش، وأطماعه الإمبريالية، في سياق الانضباط الروسي لعلاقات السوق والخصخصة وجشع الاحتكارات والأوليغارشيات. لم تعتمد روسيا بوتين على تقديم جاذب منافس للغرب، بل اعتمدت نموذج غروزني المرعب والقوة العمياء. وهنا يتشارك بوتين مع بايدن وترامب وماري لوبين ونتنياهو والحكومة الإسرائيلية في ازدراء الشعوب.
من حق الدول التي انفرط عقدها السابق أن تختار بين روسيا والاتحاد الأوروبي، أو الاستقلال عن كل الأطراف، وليس من حقها الانتماء إلى الناتو والدخول في حروب لمصلحة أي طرف. كان شعار السلم شعاراً لكل الشعوب بعد الحرب العالمية الثانية. لكن الإمبريالية الأميركية أشعلت الحروب وحذت حذوها الإمبريالية الروسية. من المفترض رفع شعار وقف الحرب الأوكرانية الروسية دون شروط مسبقة، ووقف الاستباحة الروسية لأوكرانيا، التي بدأت الشعوب تدفع ثمنها، دون شروط مسبقة، وحل الخلافات بالطرق السلمية، وإدانة جرائم الحرب ومحاسبة المرتكبين. هذا ما فعلته المحكمة الجنائية الدولية ومجلس حقوق الإنسان وهيومن رايتس ووتش والجمعية العامة بأكثرية الأصوات. لم يتوقف أنصار روسيا عند حقيقة أنه لم يعترف بجمهوريات الدونباس إلا بشار الأسد، ولم يعترف أحد بضم شبه جزيرة القرم. ولم يؤيد العدوان الروسي حتى حلفاء روسيا باستثناء قديروف الشيشاني ولوكاشينكو البيلاروسي، وبضعة أتباع سياسيين.
أما فلسطين المنكوبة بأطول احتلال، فكل رأسمال قضيتها هو مبادئ الحرية وقيم الضمير الإنساني التي لحسن الحظ لم تنطفئ، بل بدأت تستيقظ بقوة في أميركا وأوروبا وأميركا اللاتينية وجنوب إفريقيا، هؤلاء فتحوا مجرى للاستقطاب على صعيد كوني، ومن الضروري أن تكون فلسطين في المقدمة في رفض الحرب والعسكرة والاحتلالات. قد يكون المستوى السياسي الرسمي غير قادر على اتخاذ الموقف المطلوب، مقابل ذلك من الغريب والصادم والمحزن أن يؤيد مستوى ثقافي وأكاديمي فلسطيني الحرب واحتلال بلد آخر، وبصرف النظر عن الجرائم التي ترتكب بحق الإنسانية.