"التوافق" على الحدود البحرية أصبح إجبارياً!
جرعة التفاؤل التي تتحدث بها مختلف الجهات بما فيها الأميركية حول إمكانية إيجاد مخرج لأزمة الحدود البحرية قبالة السواحل اللبنانية ربما تعكس قبل كل شيء حجم المخاوف الحقيقية لما يمكن أن يترتب على انسداد الطرق أمام الحل، وما يحمله من مخاطر كبيرة قد تصل إلى أخطر الأبعاد الأمنية العسكرية، وقد لا يتمكن أحد ــ كائناً من كان ــ من منع تحول هذه الأبعاد إلى حربٍ إقليمية شاملة.
بالفعل نحن أمام معادلة هي غاية في التشابك وفي التناقض، أيضاً. حرب كهذه ليست مرغوبة من أحد.
الولايات المتحدة هي أوّل المعنيين بمنعها، والامتناع عن تأييد إسرائيل أو تشجيعها على الانجرار إليها، وذلك بالنظر إلى انشغالها بالحرب في أوكرانيا باعتبارها "أم الحروب الأميركية والغربية"، وكذلك بالنظر إلى أن الحرب إن اندلعت ستكون وستشكل ضربةً للجهود الأميركية والغربية في أوكرانيا، وستلعب دوراً "تخريبياً وتشتيتياً" مؤذياً لكل تلك الجهود.
ويضاف إلى ذلك، أن حرباً على هذه الدرجة والمستوى ستطيح نهائياً بكل جهود الولايات المتحدة لاستدراج إيران إلى اتفاق نووي، حتى لو كان هذا الاتفاق "ليس جيداً" حسب الاصطلاح الإسرائيلي، أو حتى لو كان أقرب إلى اتفاق حلول وسطية، خصوصاً وأن إبقاء الأمور مجمّدة حول الاتفاق النووي سيعني بالضرورة مزيداً من تقارب طهران مع روسيا والصين، ما يفسح المجال واسعاً أمامهما لمزيد من "ملء الفراغ" حسب الفهم الأميركي لمعادلة الصراع الدولي على الإقليم، الذي زادت أهميته وارتفعت قيمته، وتحوّل الإمساك به من جانب الولايات المتحدة والغرب من جهة، ومن جانب روسيا والصين من جهة أخرى إلى قيمة استراتيجية مضافة.
وقد لا يكون مستبعداً أبداً أن حسابات الولايات المتحدة تشمل كذلك مخاوف جدية من فقد ما لها من "أوراق"، أو ما تبقى لها من هذه الأوراق في كل من سورية ولبنان، وربما العراق ودول أخرى في المحيط الإقليمي.
هذا كله يشكل في مجمله أسباباً كافية و"أكثر" لعدم رغبة، وعدم تحبيذ الولايات المتحدة للتصعيد إلى حدود المغامرة بحرب على "الجبهة الشمالية"، أو إلى حدود الحرب الإقليمية الشاملة.
أما إذا أضفنا إلى ذلك كله التبعات التي يمكن أن تترتب على تفاقم أزمة الطاقة جرّاء حروب كهذه فإن الموقف الأميركي يصبح واضحاً تماماً، ويصبح مقروءاً من دون عناء خاص.
وانطلاقاً من أزمة الطاقة بالذات، ونظراً لتفاقم هذه الأزمة على الغرب الأوروبي أكثر من أي جهات أو أقاليم أخرى من العالم، فإن أوروبا هي آخر طرف في هذا العالم يرغب في اندلاع حربٍ إقليمية، أو حربٍ حتى على مستوى "الجبهة الشمالية".
هذا بالإضافة طبعاً إلى أن أوروبا لديها مصالح خاصة وكبيرة مع إيران، وهي معنية بعدم الإضرار بها أو تعريضها للخطر.
إن هذا ما يفسر الجهود النشطة للاتحاد الأوروبي للوصول إلى حلول وسط، وإلى "مساومات" لجعل الاتفاق النووي ممكناً.
أما لبنان الرسمي فمن المؤكد أنه يدرك تمام الإدراك أن الحرب ستؤدي إلى "انزواء" الدولة والحكم فيه عن مسرح الأحداث، وربما "اختفاء" المشهد القائم فيه، وولادة مشهد جديد على أنقاض المشهد القائم بصرف النظر عن صعوبة تحديد خرائط هذا المشهد.
حتى هوامش المناورة في هذا الإطار أصبحت تضيق أمام كل الفرقاء في لبنان بمن فيهم "حزب الله" نفسه.
أزمة "الهوامش الضيقة" في لبنان ناتجة عن ضعف الدولة وارتهانها لمعادلة الصراع الداخلية، وناتجة كذلك عن الأوضاع الاقتصادية المزرية التي وصل إليها لبنان، والأخطار التي تحولت بسبب هذه الأزمة إلى أخطار وجودية بكل ما في هذه الكلمة من معنى.
أصبح لبنان أمام مأزق مركّب، فلا الذين يريدون "التفريط" بحقوقه في الغاز والمساحات البحرية باتوا قادرين على هذا التفريط، ولا كل المتمسكين بكامل هذه الحقوق باتوا قادرين على التراجع عنها.
فعندما يجمع اللبنانيون على أن "الغاز" هو بمثابة خشبة الخلاص، وهو سبيل الإنقاذ الوحيد في المدى المنظور، تصبح "المساومة" الممكنة أعلى من السقف الإسرائيلي المعلن للمساومة.
وسواء جرت محاولات "التسوية" حول الخطين البحريين "23" و"29"، أو تمّت التسوية على أساس التقاسم النصفي لكل الآبار، أو التقاسم على قاعدة "قانا" مقابل "كاريش" فإن إسرائيل أصبحت هي الأخرى أمام خيارات صعبة.
فإن هي "أصرّت" على الاستحواذ الأكبر تصبح الحرب هي الخيار "الأوفر حظاً"، ويصبح لبنان أمام قبول وتقبّل هذه "الحرب"، وذلك بالنظر إلى الأهمية الحاسمة لعائدات الغاز في مواجهة الأزمات المتلاحقة فيه على كل صعيد ومستوى.
أما إذا تراجعت إسرائيل عند وإلى درجة القبول بالرؤى اللبنانية فإن ذلك سيكون بمثابة تراجع خطير تحت التهديد.
هذه معادلة يصعب أن تقبل بها إسرائيل، ليس لأسباب "اقتصادية" فقط، وإنما لأسباب "سياسية"، وخصوصاً الأسباب السياسية الداخلية في مرحلة حسّاسة وانتقالية ما قبل الانتخابات.
مشكلة إسرائيل بعد أن حدّد "حزب الله" استراتيجية "الحلّ" أصبحت أكبر من المساومات العادية التي تحتمل "التنازل" دون أن يحدث هذا التنازل خلخلة سياسية داخلية كبيرة في الظروف الإسرائيلية الخاصة في هذه المرحلة.
فعندما تصل الأمور إلى معادلة "إما أن نستخرج معاً أو لا أحد"، وعندما يعلن الحزب أن إحداثيات القصف الذي سيمنع الاستخراج أصبحت "جاهزة" فهذا يعني أن الخيار بات واضحاً.
إمّا مساومة مشروعة من قبل "لبنان" أو الحرب، وبالنسبة لإسرائيل إمّا "الرضوخ" أو الحرب.
ولأن إسرائيل لا تملك قرار الحرب، ولأن "حزب الله" المدعوم من إيران يملك هذا القرار فإن المخرج الوحيد الذي بات أمام إسرائيل هو التراجع والذهاب إلى مساومة هي في جوهرها أحد أشكال الرضوخ.
ستحبّذ الولايات المتحدة المساومة والتراجع الإسرائيلي مقابل البحث عن مخارج تظهر هذه المساومة وهذا التراجع وكأنه ليس رضوخاً على الإطلاق.
وأغلب الظنّ أنّ "حزب الله" قد وصل إلى ما وصل إليه من تحديد وتهديد بعد قراءة دقيقة لكامل هذه المعادلة، وهي معادلة قرأتها إيران جيداً قبل "حزب الله" وليس بعده.
قيمة التحديد والتهديد ليست بكونها قيمة مستمدة من الاستعداد فقط، وإنما في هذه القراءة بالذات.
ومن زاوية إضافية فإن عدم رغبة إيران في حرب كهذه أصبحت مغطّاة بالكامل من واقع الأزمة اللبنانية بحيث تبدو إيران وكأنها توافق على هذه الحرب إن حدثت "حفاظاً" على المصالح اللبنانية، وسيبدو فيها "حزب الله" باعتباره، واعتبار سلاحه ليس فقط للاستقواء الداخلي، وإنما للدفاع عن المصالح الوطنية الشاملة لكل لبنان.
يجب أن نعترف لـ"حزب الله" بقدرته الفائقة والمتفوّقة في القراءة السياسية والاستراتيجية لمعادلة الصراع الإقليمي كما تدور رحاها على الأرض اللبنانية.