محمود درويش
أعترف أنني أصاب بأمية الكتابة النادرة في الطقس السنوي لغياب سيد الكلمات، فأي لغة تلك التي تليق بصانع اللغة وخبازها الذي يعجنها بخميرة القلب والحب ويوزعها على طروادة وينثرها في حقل كنعان المقدس؟. ولأن لكل مقام مقالا، فأي مقال يليق بمقام من نثر الكلام على سجيته ليعبر في الحكاية؟ اعترف بأن مقال الذكرى السنوية هو أصعب ما أكتبه وأنا أقف أمام ما يستولده درويش من شعر من الأرض الحبلى بالجرار والزيت المقدس والأساطير الواقعية في مكيدتها.
أعترف أنني تواطأت مع الحرب والصواريخ التي ملأت سماء غزة وشوارعها وهي تبحث عن لحم أطفالها وغطى غبارها وهج الذكرى عندما هيمن بكاء البراءة على نثر القصيدة، هي فرصة للإفلات من المقال الأكثر وعورة، قلت: من سيسأل عن وفائنا؟ ستنسل الذكرى يتيمة كما كل شيء في حياتنا ولكن وخز الضمير الثقافي لا يقل فداحة عن الخيانة والوفاء لمن أمسك بيدنا وعلمنا حروف الأبجدية منذ تفتح ربيعنا لنصير كتاباً متكئين على غزارة سفر النصوص في دروب أثينا القديمة، إذ تكفي سماع قصيدة لتفتح كل سدود اللغة أمام أي كاتب.
درويش نبي شعرنا وظل خيمتنا في الصحراء وحارس لغتنا المسلح بالأبجدية وسور عكا وأجراس الخيول وزهرة الليمون وروائح الحنون وحبات الشعير التي يذخر بها سلاح قلمه مدافعاً عن حدود الحلم وحجارة الوادي المقدس في موانئنا القديمة، وهو ظل الخروبة وحبنا الأزلي للحياة ما أستطعنا إليها سبيلاً، يتعتق بنبيذ شعره مع كل ذكرى في خوابي أديرة الروح وتتداوله الأجيال ليصبح أكثر حضوراً في غيابه مستوليا على فضائنا العام.
«يا أبي سلم على جدي إن قابلته ... قبّل يديه نيابة عني وعن أحفاد بعل أو عناة، واملأ له أبريقه بالخمر من عنب الخليل أو الجليل» هكذا يسافر بأجنحة اللغة نحو عراقة شجرة الزيتون وكرمة العنب وإرث عناة القديمة جدتنا الجميلة وفخار قريتنا، وبعل الإله القديم منذ تحدى سفر يشوع على حبات الرمل وانتصر على شواطئ أسدود وهو يرفع راياتنا فوق عتبات معبده المقدس ليقول: نحن أحفاد الأرض وحجارتها وعنبها ونخيلها وصُبّارها ونارها التي لا تنطفئ وننهض من بين الهياكل القديمة كلما خفقت أجنحة الفينيق.
لا يعتلي المقال سوى اسمه فهو عنوان تفتحت على يديه اللغة زهوراً ورياحين في ربيعها الدائم. فكل عام والذكرى في شعر حتى نهايات النشيد وبدايات الحب وأوله، وصرت مدمناً لدرويش أنادي طفلتي الصغيرة فتقول: «تناديني لأسمع محمود درويش» صرت أتنفسه كل يوم كما العابدين في صوامعهم وكتبهم المقدسة ..، الجدارية وحدوة الفرس التي طارت عن الأسوار تأسرني وتكسرني كجرة الماء الصغيرة حين يُلمِّع أسلحة الحب بملح الدمع قبل أن يعترف أن خياله لم يعد يكفي ليكمل رحلته وهو يسأل ابن السجان القديم عن أبيه والذي أورثه حماية المدينة من القصيدة المنثورة في كرم الزيتون المعلق على خاصرة السمو.
أي شاعر أسطوري كان لنا وهو يتجاوز عصره كأنه المولود في أزقة طروادة، وهو يحكي لنا كشاهد عيان انتصارها وانكسارها ممتداً حتى رحيل النكبة وهو يسأل والده: إلى أين تأخذني يا أبي؟ وهم يتجهون شمالاً من صقيع العصابات الصهيونية فيجيب: إلى جهة الريح يا ولدي، ويصدق كطفل والده الذي يعده بالعودة حين يعود الجنود إلى أهلهم في البعيد بعد أن تركوا الحصان وحيداً ليؤنس وحدة البيت لأن البيوت تموت إذا غاب سكانها. فظل يرثى جثامين بيوتنا حتى رحيله الأخير لأننا لم نترك الأحصنة.
في قصيدته «حجر كنعاني في البحر الميت» يكتب درويش أبلغ رسائل السياسة مختصراً كل صراعات البشر وإمكانية السلام وهو يدعو الغريب لأن يلقي سلاحه فوق نخلتنا في أريحا ليزرع الحنطة في حقل كنعان و»لتكون منا أن أردت». هكذا يخاطب الغرباء بأن فلسطين تقبل كل الناس وكل الأديان وهي مفتوحة منذ القدم للبشر شريطة أن يتعلموا دروس البيت ليرفعوا فوقه برج الحمام تعبيراً عن حمامة السلام الذي كان يذبح أمام عينه وعين العالم المصاب بعمى الألوان والأصوات والأحاسيس والضمير الغائب.
كانت قصيدته الأخيرة «لاعب النرد» عندما أبلغه الأطباء بضرورة إجراء العملية الجراحية الصعبة ليسأل بتواضع وهو الذي اتهم بالتعالي «من أنا لأقول لكم من أنا»، معتبراً أنه ليس سوى صدفة كتبت نجاته من الموت مراراً وأن لا دور له في حياته سوى أنه عندما علمته تراتيلها قال هل من مزيد؟، ملتقطاً طرف خيطها ليمتص نخاعها حتى الحرف الأخير من القصيدة والرشفة الأخيرة للحب لتهب عليه عواصف رعدية.
شاعر فلسطين الذي رفعت به رأسها عالياً أمام الأمم وهي تقدم هذا المستوي العالي من الشعر الإنساني العالمي لشاعر كان يبحث عن خاتم ليسيج العالم بالزهور، كان يأسر هذا العالم وهو يغني للحب في أقوى وأعظم ما كتب وهو يقول، «أعطنا يا حب فيضك كله لنخوض حرب العاطفيين الشريفة، يا حب لا هدف لنا إلا الهزيمة في حروبك، فانتصر أنت انتصر واسمع مديحك من ضحاياك، انتصر سلمت يداك وعد إلينا خاسرين وسالماً» هذا قبل أن يقول للبشرية حكمة الزمن المعتق بأن التاريخ يسخر من ضحاياه ومن أبطاله يلقي عليهم نظرة ويمر طالباً التواضع في صراعات البشر التي تسببت بكل هذه الآلام.
حاول درويش أن يضخ الأمل بما أوتى من حب وقلم وقلب، أعيته مسارات العمر مكللاً بالشعر ليكون الليل الذي فاض على حدود الحلم، فانفجرت شوارعه وأغلقت الطرقات وسكت إلى الأبد في التاسع من آب حين لم يعد خياله يكفي ليكمل رحلته ليبقي سؤالنا نحن الفخورين حد الغيم بشاعرنا الكبير: لماذا لا يدرس شعره مع كل مراحل اللغة العربية في المدارس؟ أستمع لموسيقي عالمي من رومانيا لم يجد أفضل من قصيدة درويش «تنسى كأنك لم تكن» بلغتها العربية خلفية للحن العالمي ولا أجده في كتب طلابنا ....لذلك القلم وذاك القلب سلاماً ....ولتفتح السماء قوارير عطرها مطراً يغسل ضريحه وروحه...!!!!