في تذكّر الألم
البلاد تظل البلاد، وتظل تحمل رائحة أصحابها مهما مر الزمن؛ لأن الأرض لا تغيّر جلدها، والأوطان لا توهب بتوقيع أو رغبة. شعور متناقض وأنت تسير في الطنطورة حيث البحر والخلجان والجزر الصغيرة تذرف الدموع على ضحايا المجزرة التي خجلت منها بشاعة التاريخ. المجزرة التي كانت عالماً صغيراً عن المجزرة الكبرى التي تمت بحق الأبرياء العزل في "نكبة" غير مسبوقة في سجل القتل والإجرام والمذابح والكوارث.
في الطنطورة ترتبك وأنت تسمع صدى صراخ من حاولوا الهرب من رصاص القتلة، وسكاكين المجرمين الغرباء الباحثين لهم عن مجد مشفوع بالقتل والدم. صراخ يتردد في جنبات المكان، ثم يخيل لك أنك تركض معهم. سيدة تحمل طفلها الوحيد الذي حملت به بعد سنوات وسنوات من الانتظار، وتركض تحاول النجاة حتى تخلّد العائلة، فتجد نفسها أمام سيارة العصابات لتختطف منها طفلها وروحها ثم تسير فوقهما.
تركض معهم، لست الناجي الوحيد، ولست من يرث الحكاية وحدك. أنت الآن بينهم يخطفك الموت مثلهم، فتعيد عليه تراتيل النجاة التي حملتك مرة ومرة أخرى من بين شباكه المحققة في مناسبات عدة. ثم تفكر أنك قد تقع فجأة أمام سيارة القتلة، أو تقنصك رصاصة من خلف الأكمة، ثم يأتي القاتل الوافد من بولندا مثلاً يريد أن يكنسك من الطريق التي لا يشبهه فيها شيء. وحدك تذكره كم هو غريب عن القرية التي قررت أن تسكن جوار البحر لألفة وجدها الفينيقي الأول بينه وبين الماء الأزرق الذي سيحمله إلى العالم، وسيأتي منه بالأصباغ التي يصنع منها ثوبه.
لا تفكر كثيراً فأنت وحدك لم تقدر على وقف المجزرة، ولا توهم نفسك كثيراً فلست الناجي الوحيد حتى تسرد الحكاية. القتلة دفنوا كل شئ. أرادوا أن تختفي نظرات الضحايا من على أسوار البيوت ومن فوق طلع النخيل، أرادوا أن يتم محو الجريمة كما يتم كشط كلمة خاطئة في دفتر التعبير المدرسي لبلطجي احترف سرقة نصوص الآخرين. لا تفكر لأن التفكير في مثل هذه الحالة يعطي القاتل فرصة أن يتفنن أكثر في تعذيبك ثم سحقك ورميك في حفرة لن تكون أول وافد فيها ولن تكون الأخير.
تسمع صوتاً يناديك أن تختبئ خلف بيت تفوح منه رائحة الجثث المكدسة؛ لأن قاتلاً قرر أن يستمتع بسيجارته وهو يتأمل من قتلهم بلذة ومتعة. وقبل أن تصل البيت يختفي الصوت؛ لأن رصاصة أخرى جاءت به إلى كومة الجثث. الرائحة التي لا تريد أن تنساها لأنك تريد أن تتذكر وتريد أن تفكر أكثر أنه لا يمكن لك أن تنسى وقع من مروا بحزن وهم مجبرون على ترك أحلامهم معلقة من سقوف البيوت، يحافظون عليهم حتى مجيء الضوء من فجر مجرّة أخرى.
تسمع الصوت مرة أخرى همساً هذه المرة، يحذرك من الموت القادم من كل ناحية. ليس رصاص الجنود القتلة فقط، وليس قصف المورتر، ولا سكاكين القادمين من أماكن بعيدة ليسرقوا أرضك، وليس من أجل كل الأساطير والخرافات التي تعني نفيك من متن الحكايات عن المكان الذي لا يعرف غيرك، فقط لأنك قررت أن تقف في وجه النّوة الغريبة عن البحر، والعاصفة الرملية من تخوم الغيم.
كل شيء لم يعد ينتسب لشيء، وكل شيء بات غريباً عن كل شيء، فقط عليك أن تحافظ على توازنك؛ فقد تكون تخطو فوق قطرة دماء لعجوز ظلت تنتظر ابنها أن يعود من حيفا ولم يعد، أو تخطو فوق دمعة شابة ظلت سنوات تظن أن ابن الجيران يحبها حتى غاب في البحر ولم يعد، أو فوق بقايا ظل رجل هرم حاول أن يمسك بما تبقى من أمل ويلجأ لمكان بعيد. عليك أن تنتبه أكثر حيث تضع قدميك فلست عابراً يمكن أن ينسى، ولست غريباً يمكن أن يتوه عن تفاصيل المكان. فقط تذكر أن كل من مروا من طريق المذبحة حملوا المكان معهم، وحملهم المكان في تفاصيل الحكاية التي يريد القاتل أن تنساها الضحية، ويريد المؤرخ الخجل من كتابته أن تكون مجرد اعتذار باهت عن جرم كبير.
لا عليك، فالتاريخ ليس ما يقول المنتصر، فثمة ركن فيه لما يمكن للضحية أن تفعل من أجل تصحيح مساره. وأنت تسير في الطريق الترابي حيث بقايا البيوت والنوافذ النائمة في التراب تتطلع إلى السماء ونسيم البحر ورائحة السردين، وترسبات الملح في تجاويف الصخر على الجرز، ونبع الماء العذب في قلب الماء الأجاج، وأنت تسير هناك تعيد سرد كل هذه النكبة، لست تنسى أن الألم لا يخبو مع الوقت، فهو وقود الذاكرة لأن الماضي المفقود هو صورة الحاضر الغائبة، الصورة الباهتة في الألبوم الضائع. لا عليك فلست الناجي الوحيد ولست من يكتب الحكاية حتى النهاية.
فالتاريخ ليس سيرةً واحدة، وإن كل كتبة الحكايات ماتوا قبل أن يروا نهاية حكايتهم. لذا وأنت تقف الآن على رمل البحر تتخيل المشهد وتسمع صوت الضحايا يستصرخون الحياة، ووقع أقدامهم العارية فوق رمل الطرقات، وخبط أيدي الهاربين في فم البحر فوق موجه، تذكر أنك مررت من هنا مثل كل الضحايا ومثل كل الناجين، وأنك لست إلا شاهداً جديداً على المجزرة، وأن ضمير البشرية لو استيقظ كله لن يوقظ جدة غفت وهي تهز سرير حفيدها بالتراويد والأهازيج. تذكر أنك وحدك أنت الذاكرة التي لا يجب أن تخبو، والحكاية التي يجب ألا تنضب حتى يعود التاريخ إلى وعيه.