عن تطورات الصفقة النووية الغربية مع إيران
يبدو أن الولايات المتحدة والغرب معنيان بعقد الصفقة النووية مع إيران، فرغم فشل المحادثات غير المباشرة بين إيران والولايات المتحدة، خلال أحد عشر شهراً من المفاوضات والجولات المتعددة، وعدم ترجمة تفاهمات الطرفين في العديد من القضايا باتفاق، قدم الاتحاد الأوروبي مطلع الشهر الجاري مقترحاً لجسر الخلافات المتبقية. وبدأت الجولة الجديدة من المحادثات في فيينا بشكل مباشر، التقى خلالها كبير المفاوضين الإيرانيين، علي باقري كاني، ونظيره الأميركي، روب مالي، حيث أكدت واشنطن استعدادها لإبرام الاتفاق على أساس العرض الذي وضعه الاتحاد، بينما أكدت إيران على أنها ستدرس ذلك الاقتراح، واعتبر حسين أمير اللهيان وزير الخارجية الإيراني، يوم الأحد الماضي بأن نجاح المحادثات يعتمد على مرونة واشنطن، وتقدمت طهران بالفعل بإجابتها يوم الإثنين الماضي، دون الإفصاح بعد عن تفاصيل ردها. ولم يعد خفياً أن تحفظات إيران هي التي تعطل الوصول لاتفاق حتى الآن، الا أن تأثيرات الحرب الروسية الأوكرانية تبدو السبب الرئيس في المحاولات الغربية لجسر الخلافات بين البلدين بهدف الوصول إلى الصفقة.
جاء تأكيد وزير الخارجية الإيراني بأن «هناك ثلاث قضايا عالقة، إذا تم حلها يمكن التوصل إلى اتفاق خلال الأيام المقبلة»، ليعكس مدى إصرار إيران حتى الآن على موقفها وعدم تراجعها عن خطوطها الحمراء. وأكدت وزارة الخارجية الأميركية يوم الإثنين الماضي أن السبيل الوحيد لإحياء اتفاق إيران النووي هو أن تتخلى طهران عن تلك المطالب، وهو ما يؤكد أن الفجوة بين البلدين مازالت حاضرة. وتتمحور شروط إيران الثلاثة حول شرط صعب التحقق، وآخرين قابلين للتنفيذ، ما يترك احتمالاً ممكناً لتحقيق الاتفاق، إذا توفرت إرادة البلدين.
وتطلب إيران من واشنطن في شرطها الأول، غير القابل للتحقق، رغم منطقيته، بأن توفر ضمانات تضمن عدم انسحاب أي رئيس أميركي جديد من الاتفاق النووي معها. ويبدو ذلك الشرط منطقياً في ظل انسحاب الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب من الاتفاق النووي مع إيران، من جانب واحد وبشكل منفرد في العام ٢٠١٨، وفي ظل إقرار الوكالة الدولية للطاقة الذرية بأن ايران كانت تفي بمسؤولياتها على النحو المنصوص عليه في تلك الصفقة. وكان الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما قد أبرم ذلك الاتفاق مع إيران في العام ٢٠١٥، وعُرف بـ «خطة العمل الشاملة المشتركة» (JCPOA). الا أنه ليس من السهل التزام واشنطن بذلك الشرط لأسباب تتعلق بطبيعة النظام والسياسة في الولايات المتحدة. فالاتفاق النووي الذي نتحدث عنه يعتبر تفاهماً أو التزاماً سياسياً فردياً، إذ يصعب على أي رئيس ارغام خليفته بقبول ذلك الالتزام الذي توصل اليه سلفه. ويستطيع الرئيس الأميركي اتخاذ مثل ذلك الالتزام أو التراجع عنه، دون الحاجة إلى العودة للسلطة التشريعية، كالمعاهدات الخارجية الأخرى، والتي تحتاج للتصديق من قبل السلطة التشريعية.
وتدعو إيران في شرطها الثاني، والقابل للتحقق أيضاً، برفع الحرس الثوري الإيراني من قائمة وزارة الخارجية للمنظمات الإرهاب الأجنبية في الولايات المتحدة الأميركية. وتأتي إمكانية تحقيق ذلك الشرط على الرغم من أنه يخرج من نطاق وعد إدارة الرئيس الحالي جو بايدن برفع جميع العقوبات المتعلقة بالبرنامج النووي الإيراني التي فرضتها الإدارة السابقة. فقد عرض بايدن امكانية إزالة الحرس الثوري من قوائم الارهاب في إطار اجراءات متبادلة، تشمل الدخول بمحادثات بشأن القضايا الإقليمية، والتزام البلدين بعدم استهداف مسؤولي بعضهما البعض. ولا تزال طهران ترفض الخوض في تلك الاجراءات المتبادلة، ما يبقي ذلك الشرط معلقاً حتى الآن. وتطالب إيران في شرطها الثالث، والقابل للتنفيذ، بأن تغلق الوكالة الدولية للطاقة الذرية التحقيق بعد عثورها على آثار يورانيوم في أحد المواقع الإيرانية في العام ٢٠١٩، والتي لم تستطع إيران تقديم إجابات واضحة لتبرير وجودها، رغم الاستفسارات المتكررة من قبل الوكالة الدولية حول ذلك.
ويبدو أن القوى الغربية باتت تعتقد أن عدم الوصول لصفقة مع إيران يعود بخسارة ثنائية الأبعاد، يتعلق البعد الأول بإسرائيل بينما يرتبط الثاني بالحرب الروسية الأوكرانية. فقد أدى الفشل في التوصل لصفقة بعد قرابة عام من المحادثات إلى فرض إدارة بايدن مزيداً من العقوبات على إيران، والذي ردت عليه إيران كعادتها بتفعيل أجهزة طرد مركزي جديدة ومتقدمة. ووفقاً للوكالة الدولية للطاقة الذرية، باتت طهران تمتلك ما يكفي من المواد الانشطارية لدرجة جعلتها قريبة من إنتاج القنبلة النووية، وهي الأمر الذي تقصد إيران بوعي توصيله للغرب، اذ اعتبر كمال خرازي مستشار السياسة الخارجية للمرشد الأعلى حسن خامنئي في شهر تموز الماضي بأن إيران باتت لديها القدرة على صنع أسلحة نووية.
وأكد تقرير نشرته جريدة «نيويورك تايمز» الأميركية أن مسؤولين أمنيين إسرائيليين منقسمون بشأن الاتفاق النووي الإيراني، اذ إن هناك مسؤولين رفيعي المستوى في مؤسسات الجيش والاستخبارات الإسرائيلية يدعمون اتفاقاً نووياً جديداً على غرار الاتفاق السابق مع إيران، رغم عدم قبول الحكومة الإسرائيلية بذلك بعد. ويعتبر هؤلاء حسب التقرير أن هذا الاتفاق سيكون في مصلحة إسرائيل، في ظل تبعات الوضع الراهن، الذي تحرز خلاله طهران تقدماً سريعاً في برنامجها النووي، وعدم قدرة العمليات الإسرائيلية التخريبية على إحباط تطوير ذلك المشروع. واعتبر تامير باردو رئيس جهاز المخابرات الإسرائيلي الأسبق أن قيام إسرائيل بإقناع ترامب الانسحاب من الاتفاق النووي يعد خطأً إستراتيجياً كبيراً، سيوصل إيران لإنتاج القنبلة النووية في النهاية، وهو ذات الأمر الذي أكد عليه جدعون فرانك رئيس لجنة الطاقة الذرية الإسرائيلية الذي اعتبر أن اتفاق الولايات المتحدة مع إيران حول برنامجها النووي سيمنح إسرائيل الوقت للاستعداد لخيار عسكري حاسم.
وتهتم واشنطن وحلفاؤها الغربيون بالنفط الإيراني، خلال هذه الحرب القائمة الممتدة، في ظل تعقيدات اقتراب دخول فصل الشتاء القارس على أوروبا، واستمرار ارتفاع أسعار النفط والغاز، كما تحرص طهران كذلك على التحرر من العقوبات الغربية الاقتصادية القاسية. ورغم أن إيران تعتبر منافساً طبيعياً في سوق النفط والغاز العالمي، وقد تكون في وضع أفضل اذا لم تر الصفقة النووية الأميركية الإيرانية النور، الا أن الشراكة التي بنتها روسيا مع إيران في الماضي، وتوطدت بشكل كبير خلال هذه الحرب، والشبيهة بتلك التي بنتها روسيا مع تركيا، والقائمة على مبدأ تحقيق المصلحة في الأساس لهذين البلدين، تفسر صعوبة إحداث اختراق حقيقي لصالح الغرب في هذه الحرب من خلال إيران، حتى وإن افترضنا توقيع الاتفاق النووي. وجاءت رحلة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الأخيرة إلى العاصمة الإيرانية في التاسع عشر من تموز الماضي، لتعكس اتفاق البلدين حول قضايا أمنية واقتصادية عديدة، وهذه التطورات في علاقة البلدين مكنت طهران من توسع دائرة اختراقاتها للعقوبات الأميركية على قطاع النفط، وقد رفعت من نسبة صادراتها النفطية الى مستويات ما قبل انسحاب أميركا من الاتفاق في عهد الرئيس السابق ترامب. وتساهم كل من تركيا وإيران بالإضافة إلى الصين في إحداث اختراقات ملحوظة للعقوبات الغربية الاقتصادية الموجهة ضد روسيا.