عندما يصبح إرث التاريخ عبئاً على الحاضر
لكل الشعوب ذاكرة ولكل الشعوب آلامها وأحزانها وهي تصنع تاريخها وجزء كبير من هذا التاريخ كان مخضباً بالدم والألم والدموع، فالبشرية لم تكن عاقلة ولا تزال حتى اللحظة وهي تخوض صراعاتها بكل ما تملك من قوة وقسوة ووحشية تجلت في كل صراعاتها.
من يقرأ التاريخ يكاد يسمع صوت الضحايا وبكاء الثكالى وأنين المبتورين وصوت المدافع والسيوف وهي تقطع اللحم البشري أو تحرقه بنيران قذائفها.
لكل شعب مأساة، وقلما نجد في التاريخ البشري شعبا لا يحمل فاجعة ولدّها الطمع والجشع والعنصرية والأفكار الشريرة التي أنتجها العقل البشري كمقدمات وذخيرة للحروب.
ولا يمكن لمن يقرأ التاريخ أن يغمض عينه على تلك المآسي أو يتصور أن العقل البشري وصل بتوحشه إلى هذه الدرجة ولم يقتصر الأمر على بقعة جغرافية احتكرت ذلك التوحش بل كان الدرس والتجربة يتجليان على امتداد الكرة الأرضية.
لليابان ذاكرتها عندما أحرقتها القنابل النووية بموتتين عندما هبط أعتى سلاح أنتجه العقل البشري على مدنها لتصيب العالم بصدمة ما زالت تجلجل في زوايا الحاضر، وللأرمن ذاكرتهم التي ما زالت حية في أذهان أجيال بعد أكثر من قرن، ولأوروبا ذاكرتها الأليمة عندما سحقت حرباين عالميتان خيرة شبابها وبهاء مدنها وحولت أراضيها إلى مقابر جماعية للأبناء والأطفال والعائلات وذكريات العائلة.
لليهود ذاكرتهم عندما تعرضوا للمحرقة من النازي ظلت حية، هذا حدث تاريخي لا يمكن إنكاره ولا الرئيس الفلسطيني فعل ذلك في ألمانيا في مؤتمره الصحافي ولا من قَبْل مؤرخو الحرب العالمية الثانية وبصرف النظر عن الأرقام.
وإن كان درس التاريخ الأبرز لما تؤشر عليه النزعة العنصرية التي تذهب حد حرق البشر وقد فعلها العقل الأوروبي عندما تلبسته ليحرق أوروبا بالسلاح وبوسيلة أخرى أبناء الديانة اليهودية من الأوروبيين تلك الوسيلة تشكل إدانة للعقل البشري.
من يفترض أن التاريخ لم يسر على جلد البشر فهو مخطئ، ومن يفترض أن التاريخ لم يتسلق على عظامهم وجماجمهم فهو مخطئ، ومن يظن أن التاريخ لم يغسل أيديه وأقدامه بالدم فهو بحاجة إلى إعادة قراءته من جديد، فالمتحاربون لم يوزعوا الورود والأعداء كانت كل مهمتهم ولهفتهم عد الجثث في طوابير لم تنتهِ بالرغم من أن البشرية لم تتعلم بعد.
هذا التاريخ الطويل من الدم وهذا العنف الذي امتد طويلاً مخلفاً ما يكفي من عطب في الذاكرة كان يفترض أن يكون إشارة مرور البشرية نحو عهد جديد وطريق للعبور نحو عالم خالٍ من رائحة الموت والدمار، هذا حدث في أوروبا التي خرجت مثقلة من الحرب العالمية الثانية بعد فقدان خمسين مليونا من الأبناء لتعيد صياغة فكرها السياسي والاجتماعي باتجاه رفاهية المواطن كتعويض نفسي عما فعلته بنفسها.
ولكن الذاكرة لا تصبح قيداً على الحاضر وإلا لاستمر العالم بالكراهية والحروب إلى الأبد، ولا تصبح مآسي البشر مبرراً لارتكاب مزيد من المآسي ولا يبرر لشعب كان ضحية في لحظة ما أن يجعل من شعوب أخرى لا ذنب لها ضحية أخرى بل ويستخدم ذاكرته للنيل منها.
هذا ما تفعله إسرائيل، نعم تعرض اليهود الأوروبيون لمأساة ولكن من الجريمة أن يستخدم هذا لإسكات كل من يعترض على ممارسات إسرائيل وقتلها اليومي للفلسطينيين.
فقبل أيام تعترف أنها أحرقت خمسة أطفال في جباليا بنيران صواريخها، ولا يمكن للذاكرة الفلسطينية أن تنسى بكاء ذلك الأب الذي قتلوا ابنه أمامه وتركوه ينزف لأكثر من نصف ساعة أمامه ليقول: «كنت أسمع موت ابني».. أي إنسانية ممكن أن تحتمل هذه المأساة وغيرها وغيرها..!
لكل شعب مأساته وفرادة التراجيديا التي تحملها ذاكرته، وكل شعب يعتقد أن مأساته هي الأشد قسوة وهذا جزء من أزمة الحوار بين الشعوب، لكن التجربة تقول: تتعدد الوسائل لكن مأساة موت البشر واحدة، ولو توقفت الشعوب أسيرة الذاكرة المعطوبة لن تتجاوزها.
لنتصور أن اليابان ما زالت تقف على محطتي هيروشيما وناغازاكي وتحملهما في كل خطاب لها وبعض منها يطالب بالتعويض والانتقام حينها سيصاب العالم بانزعاج، أو الصين التي احتلتها اليابان، أو أن تطالب فرنسا ألمانيا بالخضوع لأن النازية احتلتها لأربع سنوات.
هذا تاريخ ولكنه ليس لمعاقبة الحاضر، لا ينبغي نسيانه صحيح ولكنه يجب أن يبقى جرس إنذار عندما تقترب الأمم من نذر الكارثة.
المحرقة تمت في أوروبا وليس في المنطقة العربية، ولا ينبغي أن يكون الفلسطيني ضحية ضحيتها فتلك ستكون كارثة جديدة أضافها العالم الذي تسبب بالمحرقة الذي يفترض أن يدفع ثمنها هو وليس شعباً على بعد آلاف الأميال.
وما زال المجتمع الذي أنتج تلك النازية وثقافتها وممارساتها المتوحشة لا يريد أن يرى ما تفعله إسرائيل مسكوناً بعقدة لم يكن للفلسطيني أي ذنب فيها، فقد ارتكبت إسرائيل جريمة العصر وهي ترحّل شعبا كاملا من أرضه.
والمأساة أنه بعد ثلاثة أرباع القرن ما زال العالم يتعامى عن تلك المأساة متسمراً عند حدود الذاكرة لمأساة اليهود ولكنه لا يرى الحاضر الذي يتعرض فيه الفلسطيني لمأساة ممتدة ويومية .. هل يمكن أن يلام الفلسطيني؟
لقد قدمت الحرب الروسية الأوكرانية دليلاً على الكيل بمكيالين لدول تعلن هذا القدر من التعاطف من الأوكرانيين الذين يهجرون وطبعاً يتعاطف معهم الفلسطيني الذي ذاق ويلات الهجرة، ولكنها لا تبدي أي شفقة تجاه الفلسطيني، هذا أصبح جليا ولكن ليس مفهوما أن يلوم ضحية الضحية لأنها فكرت للحظة أن تكفر بهذا العالم، أن تصرخ، أن تقول حدث لدينا خمسون مأساة ومأساة وأنتم تتفرجون لينهال عليها كل هذا الغضب، صحيح أن الإعلام الغربي بحاجة إلى لغة مختلفة ولكن ليس إلى الحد الذي يبكي على الماضي ولكن لا تهزه مآسي الحاضر ؟ لا أحد سيسأل إسرائيل: متى ستتوقف مذابحكم؟ هذا سؤال ثقيل على عالم معاييره مختلة ومصاب بعطب في الأخلاق ؟ ولكن حين لا نكف عن اكتشاف هذا العري الفاضح من الأخلاق في عالم السياسة علينا أن نكون أكثر دهاء في لغتنا مع أعمياء الضمير العالمي حين يمتلكون ما يكفي من القوة.