بعد ١٢٥عاماً...ما زالوا يريدون جعل وجودنا فوق تراب وطننا في حد ذاته معادٍ للسامية
معاداة السامية هي تعصب وعمل عدائي مقيت ضد جميع الساميين ومنهم العرب المسيحيين والمسلمين في الشرق الأوسط والكنعانيين وبعض الإثيوبيين والآراميين وبعض اليهود من العبرانيين والغجر.
وهو امر لا يقتصر على معاداة اليهود او اليهودية كما تحاول الحركة الصهيونية اظهاره واشاعته بما تهدف له في جميع معتقداتدها الفكرية وتوجهاتها السياسية لإظهار اليهود فقط كضحية لما يدعونه بمعاداة السامية، لكن أيضا من اجل ضمان الأولوية الاستعمارية "لحقوق" اليهود في وطن على حسابنا نحن الفلسطينيين الذين نعيش في أرضنا ووطننا التاريخي منذ العصور القديمة وما زلنا نكافح من أجل حقنا المغتصب في تقرير المصير.
وقد كانت الجمعية العامة للأمم المتحدة قد وضعت الصهيونية في درجة مساواة العنصرية عام ١٩٧٥، بغض النظر عن ما جرى لاحقا لإلغاء هذا القرار الأممي الهام عام ١٩٩١ نتيجة المتغيرات السياسية بالنظام الدولي انذاك وتفرد أمريكيا في نظام عالمي احادي القطب بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وقد نكون نحن الفلسطينين احد الأطراف التي ما زالت تدفع ثمنا باهظا لتبعات ذلك المتغير حتى اليوم، بمقابل تمدد تأثير الحركة الصهيونية حتى اللحظة التي تعقد مؤتمرها غدا الأحد بحضور اكثر من الف مندوب من بقاع العالم في مدينة بازل السويسرية التي انطلق منها مؤتمرهم الأول قبل ١٢٥ عاما للعمل من أجل حق ما يسمونه "الشعب اليهودي" بتقرير المصير.
ان الصهيونية ومن بعدها دولة الاحتلال لم تتوقف من اتهام شعوب العالم بعداء اليهود تحت ما أطلقت عليه مصطلح "العداء للسامية"، وقد حرصت منذ قيام " إسرائيل" في فلسطين على إلصاق هذه التهمة بالشعوب العربية وخاصة بحق شعبنا الفلسطيني ، داعية اليهود العرب للهجرة إلى فلسطين بدعوى أن العرب ارتكبوا جرائم ومجازر ضد الأقلية اليهودية بالدول العربية.
وقد عملت الحركة الصهيونية على اختزال "العداء للسامية" في اليهود وإخراج بقية الساميين من دائرة الانتماء للسامية، واعتبار اليهود ساميين يعيشون في مجتمعات ليست سامية.
ان اليهود الأوروبيون الذين اخترعوا مصطلح معاداة السامية لا ينتمون إلى الساميين، بل هم أوروبيون يعيشون في أوروبا منذ عام 70م بعد أن طرد الرومان اليهود من فلسطين وشتتوهم في كل بلاد العالم فيما بات يعرف بالشتات اليهودي العام.
ان التعريفات العملية التي قدمها بالسنوات الأخيرة التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست (IHRA) لاحقا لإعلان هذا التحالف عام ١٩٩٨ تشير بوضوح بأن أي استهداف لإسرائيل أو "الادعاء بأن وجود دولة إسرائيل هو مسعى عنصري، "يمكن أن يكون بحد ذاته عنصريا ومعادٍ للسامية وأن "تطبيق معايير مزدوجة من خلال مطالبة إسرائيل بمسؤولية سلوك غير متوقع من أي دولة ديمقراطية أخرى "هو أيضا معادٍ للسامية ، كما أن إلتشكيك بصحة روايتهم حول جرائم الهولوكست أو عدم الموافقة على كونها احتكارا لما تعرض له بعض اليهود خلالها على يد النازيين ، هو توجه معاد للسامية".
وفي عام ٢٠١٦ نيابة عن عدد من الدول حول العالم الأعضاء في هذا التحالف بما في ذلك بعض الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي تم اعتماد التعريفات العملية لمعاداة السامية وقائمة الأمثلة الخاصة به في اجتماع عام لـ ٣١ دولة بعد اعتماده من قبل IHRA، حيث تم ربط هذه التعريفات على وجه التحديد بانتقاد اسرائيل مع معاداة السامية.
ان تعريفات التحالف الدولي هذا تأتي في تناقض تام مع القيم الديمقراطية وحرية التعبير، وتنتهك جميع الحريات المدنية وكذلك مبادئ نشؤ الاتحاد الأوروبي تفسه، حيث أصبح هذا أكثر وضوحا قبل سنوات قليلة، عندما أقر البرلمان الإسرائيلي (الكنيست) قانونا يُعرف إسرائيل على أنها دولة "الشعب اليهودي"، القانون الذي ينص على أن جميع اليهود ، حتى أولئك الذين لا علاقة لهم بإسرائيل يتمتعون بالحق في تقرير المصير بالوقت الذي يُحرم جميع الفلسطينيين من هذا الحق كمبداء سامي، بما في ذلك 20 ٪ من سكان إسرائيل من الفلسطينيين والمواطنين رسمياً في إسرائيل.
لم نشهد قط في التاريخ السياسي الحديث مثل هذه المحاولة لتغيير وتشويه معنى الكلمات لخدمة نوايا قوة محتلة واستعمارية. حيث ان اعتماد تعريف عمل التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست (IHRA) ومعاداة السامية يمنح الإسرائيليين حصانة قانونية مطلقة لمواصلة انتهاكاتهم للقانون الدولي والإنساني، متجاهلاً هذا التعريف تماما جميع قرارات الأمم المتحدة وميثاق الأمم المتحدة، كذلك مبادئ حرية التعبير عن الرأي، وهو ما عَمل العنصريين ترامب وكوشنير سابقا على الدفع باتجاه صياغته واقراره خلال وجودهم بالإدارة الأمريكية.
إن انتقاد السياسة الإسرائيلية المتمثلة بالإرهاب والتطهير العرقي والقتل والتهجير الجماعي والاعتقالات الجماعية والفصل العنصري والتي توصف وفق القوانين الدولية بجرائم مختلفة العناوين، والتي تصدر ليس فقط منا نحن الفلسطينين وانما ايضا من قبل جماعات اسرائيلية ويهودية ومنظمات انسانية وحقوقية حول العالم والعديد من القوى الديمقراطية والتقدمية، لا تشكل هجوما على اليهودية - دين نحترمه مثل أي دين آخر ولا يمكن اعتباره عملًا عنصريا - لأننا بالمثل نُدين داعش وقوى الإسلام السياسي المتطرفة التي لا تمت للاسلام الحنيف بصلة وكذلك القوى السياسية اليمينية المتطرفة والشعبوية الأخرى في أوروبا التي أصبحت تتحدث اليوم عن مسيحية أوروبية عنصرية تجاه أصول أثنية ودينية اخرى في آليات تعاملها مع القضايا العالمية الناشئة وتحديدا مع قضايا المهاجرين على أثر الحروب حول العالم، والمساهمة في تعزيز مفهوم الاسلام فوبيا بين الشعوب الأوروبية.
والمفارقة ان اليوم يتخذ اليمين المتطرف الأوروبي ومن يسمون أنفسهم بالنازين الجدد وخاصة في ألمانيا والنمسا وبريطانيا والمجر أوكرانيا ودول أخرى أوروبية كما ايضا بالبرازيل وبالطبع بالولايات المتحدة الأمريكية واستراليا وكندا موقفا مؤيدا للحركة الصهيونية ولتأكيد الدعم المطلق لدولة الاحتلال الإسرائيلية لصد الاتهامات عنها بالعنصرية والابرتهايد والفوقية الدينية إضافة إلى جوهرها كدولة انشأت لخدمة أهداف الغرب الاستعماري بالمنطقة. وهو ما قد يفسر ذلك التعاون القديم بين الصهاينة والنازيين الذي ترسخ في مثل هذا الوقت في شهر اَب عام ١٩٣٣ من خلال اتفاقية "هاعافارا" بينهم.
إن الرفض الفلسطيني للصهيونية ولفكرتهم حول "معاداة السامية" ليس نابعا من مسألة عداء عرقي أو ديني أو اجتماعي لليهود، بل هو رفض للفكرة الاساسية الاستعمارية للنظام الإسرائيلي المرتكز على الفكر الصهيوني العنصري الكولنيالي وعلى محاولاتهم لاحتكار الانتماء للساميين.
كما اننا نحن الفلسطينين الذين ننحدر من أصول سامية عبر التاريخ لا يمكن أن نحمل صفة العداء لأنفسنا أو لغيرنا من الساميين أو ابناء الحضارات الأخرى سوى بالجوانب المتعلقة بالتنفيذ والاستغلال السياسي في اضطهاد شعوب أخرى.
وقد استندت ما تسمى بنظرية معاداة السامية في العصر الحديث إلى التمييز بين عرقين، العرق الآري والعرق السامي ونسبت صفات معينة متميزة لهذين الجنسين. وانتشر هذا الاعتقاد في ألمانيا حيث أدى النشاط اليهودي في كل مجالات الحياة إلى إثارة كراهية الألمان من المسيحين وحقدهم على اليهود كشكل من معاداة السامية.
رغم ادانتنا نحن لهذه الجرائم والادعاءات ضد اي كان ، فإن الادعاء الصهيوني باحتكار السامية ومصطلح الهولوكست ادعاء تضحده وقائع الأحداث السياسية التي جرت خلال الحرب العالمية الثانية من انتصار الجيش الأحمر وبطولات حركات المقاومة في أوروبا، وسقوط ضحايا بعشرات الملايين من البشر الذين استهدفهم الوحش النازي من غير اليهود. إضافة الى المجازر والهولوكست بحق شعوب اوروبا الاخرى الغير سامية وفق المفهوم التاريخ السياسي للشعوب، وهو أمر يتماثل مع المجازر التي ارتكبتها عصابات الحركة الصهيونية منذ النكبة بحق شعبنا حتى يومنا هذا، الجرائم التي وصفها وشبهها الأخ الرئيس أبو مازن بالهولوكست ضد شعبنا والتي أثارت الضجة المفتعلة من الحركة الصهيونية بأوروبا والولايات المتحدة وحلفاؤها من اليمين حول العالم وحكام دولة الاحتلال.
أن التوجه المستمر والمتزايد للحركة الصهيونية حول العالم يهدف اولاً، تزييف وقائع التاريخ وطمس الوقائع وتجاهل الحديث عن المؤامرات الصهيونية النازية التي رافقت التعاطي مع المسألة اليهودية في أوروبا بهدف تسويق الفكرة المزعومة عن "الشعب اليهودي" بصبغتها القومية الدينية لخلق "الوطن القومي" لهم، وثانيا من أجل استمرار تسويق فكرة معاداة السامية المتمثلة باضطهاد اليهود دون أتباع الديانات الأخرى كاساس لمعاداة السامية وإبقاء اليهود ضحية مستدامة أمام العالم لحصد التعاطف السياسي مع دولة الاحتلال الذي ترغب به الحركة الصهيونية على حساب استمرار اضطهاد شعبنا الفلسطيني وحقوقه التاريخية السياسية ومنعه من ممارسة حقه بتقرير المصير واقتصار ذلك على يهود العالم وفق اعتبارهم الخاطئ والمتعمد كشعب.
أن الخلط بين معاداة السامية من جهة ومعارضة وانتقاد السياسات الإسرائيلية العنصرية والتضامن مع شعبنا الفلسطيني من جهة أخرى هو خلط فاضح ومقصود تقوم به المنظمات الصهيونية بهدف الترهيب والتخويف لكل من يتعاطف مع شعبنا الفلسطيني من سياسيون ونشطاء وفنانون ومنظمات وحركات إنسانية حول العالم بما في ذلك المنظمات اليهودية المعادية للصهيونية خاصة الاوروبين منهم.
أن المطلوب من اصدقاؤنا حول العالم والذين يدافعون عن قيم ومبادئ إنسانية وديمقراطية أن يمنعوا إقرار ما جاء في وثيقة تعريفات التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكست بالبرلمانات الأوروبية كقرارات، وأن لا يعتذروا عن تضامنهم ومواقفهم الأساسية من حيث المبدأ مع قضايا حرية شعبنا، وفق ما تطالبهم به الحركة الصهيونية ومن يقف معها بالغرب دفاعا عن التعريفات العملية للتحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكست والمتعلق منه بجانب ما يطلقون عليه معاداة السامية.
إن الدفاع عن حقوق شعبنا والدعوة إلى إنهاء الاحتلال الاستيطاني وانتقاد أو معارضة سياسات دولة استعمارية استيطانية مارقة تقوم بنزع ملكية الفلسطينيين وقمعهم بكل الطرق واخضاعهم لهولوكست مستمر منذ اكثر من سبعة عقود في أراضيهم ليس عملا معاديا للسامية ، بل أن معاداة السامية هو ما يتمثل بهذه السياسات والجرائم من جانب الحركة الصهيونية نفسها، والتي اعتبرها " لينين " حركة عنصرية ومعادية للسامية نفسها، وهو ما اقتبسه واشار له الأخ الرئيس أبو مازن في أحد كتبه.
لقد استولى اليهود الصهيونيون الإسرائيليون على أحداث في التاريخ اليهودي، بما في ذلك محرقة اليهود، فاستغلوها لأغراض دعائية لتأكيد حقهم المزعوم في فلسطين، وهي أرض زرعوا فيها مطالبتهم الاستعمارية فيها قبل نصف قرن من احداث جريمة الهولوكست ضد الاوروبين على يد النازيين.
وتؤكد إسرائيل بتزويرها فكرة معاداة السامية و باحتكارها الهولوكست (وهي كلمة يونانية الأصل) كمحرقة لليهود فقط تجافي حقائق التاريخ الانساني، وهي اي اسرائيل تعمل من اجل أن يكون أي اعتراف بالإبادة الجماعية لليهود هو اعتراف بحق إسرائيل في الوجود كدولة يهودية ، في حين أن أي محاولة لحرمان هذا الحق هي إنكار محرقة اليهود.
ومن الناحية التاريخية، فإن منظمة التحرير الفلسطينية كانت دائماً ما تكون واضحة من إبداء الموقف الواضح من ادعاءات معاداة السامية و التعاطف مع ضحايا الهولوكست ومن ضمنهم اليهود وإدانة النازيين وجرائمهم . ولكن إسرائيل كدولة احتلال ومؤيدوها رفضت هذا التضامن لأن منظمة التحرير الفلسطينية رفضت الاعتراف بمطالبات إسرائيل في يهودية دولتها في أرض شعبنا الفلسطيني وقبولها لهذا الأمر الذي يعني التخلي عن روايتنا التاريخية وتصديق الرواية الصهيونية القومية والتوراتية، وذلك في إطار كفاح حركتنا الوطنية وممثلها الشرعي ضد جريمة استمرار الاحتلال الاستيطاني.
وحتى اليوم، ترفض دولة الاحتلال الاستيطاني "إسرائيل" ومؤيدوها أي اعتراف باحتكار المحرقة أو التضامن مع ضحاياها اليهود لا يصاحبها صراحة دعم التطهير العرقي الصهيوني الوحشي في فلسطين وتاييد سياساتهم الاستعمارية واستخداماتهم لفزاعة معاداة السامية، وهذا ما يشكل محور ابتزازاتهم من الغرب والاوروبين على وجه التحديد.
وهذا هو بالضبط ما تم خلال زيارة الاخ الرئيس ابو مازن الى المانيا ، من خلال اللعب في هذه المسألة بواسطة الضجة المفتعلة اسرائيليا والتصريحات الالمانية والامريكية وفتح ملف تحقيق لدى الشرطة بتهمة معاداة السامية ومحاولة إدانة الرئيس عباس بشكل خبيث يتفق مع رؤية اليمين الاوروبي في دعم سياسات اسرائيل.
وهذا ما تم مع العديد من القادة السياسين اليسارين والتقدمين حول العالم بتوجيه تهمة معاداة السامية لهم حين أعلنوا تضامنهم مع قضايا شعبنا الفلسطيني ورفضهم لسياسات إسرائيل بهدف إثارة الضجة حولهم، كما تم مع جيرمي كوربين زعيم حزب العمال البريطاني وعدد من اعضاء الكونغرس الأمريكي مثل بيرني ساندرز وطاليب وغيرهم والمغني العالمي روجر وترز و العديد من قيادات الأحزاب التقدمية بأوروبا، وقد يحدث هذا الآن تجاه قيادات روسية بعد قرار التحقيق في عمل الوكالة اليهودية هنالك ، وهو ما يشكل جوهر استغلالهم لفزاعة معاداة السامية.
واذا كان اليمين السياسي والفكري في ألمانيا أو اوروبا محقين تماماً في مشاعرهم حول ذلك، بأن تقديم ارض هو التعويض المناسب عن الإبادة الجماعية لليهود كما يشيعون، لماذا اذن لم يقدم أي بلد أوروبي، ولا سيما ألمانيا أراضيها الخاصة أو جزء منها لدولة يهودية؟
لقد سئمنا من دفع الثمن من أجل النفاق الأوروبي بخصوص جرائم الإبادة الجماعية ومعاداة السامية وكلاهما أمران لا علاقة لنا بهم نحن الساميين الكنعانين العرب الفلسطينين.
أن الهدف الكامل من محاولة مساواة معاداة الصهيونية بمعاداة السامية الذي يسعى التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكست باشاعته ومن خلفه الحركة الصهيونية العالمية التي تلتقي غدا في نفس المدينة بازل لعقد مؤتمرها بعد ١٢٥ عاما من مؤتمرها الاول ، هو جعل وجودنا نحن الفلسطينيين فوق تراب وطننا التاريخي في حد ذاته معادٍ للسامية وفق مخططاتهم ورؤيتهم العنصرية الاستعمارية التي تزداد تطرفا وحدة مع مرور الوقت.