ثورة المؤبدات وطائر الصدى
مقالات

ثورة المؤبدات وطائر الصدى

أعلن يوم 27/8/2022 أكثر من 4600 أسير فلسطيني خطوات نضالية تصعيدية متدرجة قد تصل إلى ‏أكبر إضراب جماعي مفتوح عن الطعام لمواجهة الإجراءات التعسفية والقمعية التي يتعرضون لها وتنتهك ‏كافة حقوقهم الإنسانية والقانونية، الأسرى وجهوا نداءً يطالبون بمساندتهم ومناصرتهم وإعلان حالة الاستنفار ‏الشعبي والمؤسساتي ودعم مطالبهم وخطواتهم على كافة المستويات المحلية والإقليمية والدولية. ‏


إنها ثورة المؤبدات وتمرد المقهورين والمقموعين والضائعين والمهدورة أعمارهم خلف القضبان، طفح الكيل في ‏تلك السجون البغيضة وصار الموت أهون من السجن تحت بساطير السجانين ومنظومة القمع العنصرية ‏والإذلال، فالسجن يسلب الكيان الإنساني يوماً يوماً وسنة وراء سنة وبأشكال عديدة من القهر والتعذيب ‏والمرض والقتل إلى سحب الاعتراف بقيمة الإنسان ودفعها إلى مستوى دون خط البشر، استباحة الحقوق ‏والكرامة، التعامل معه كأنه لا شيء، تمارس عليه كل أنواع البلطجة والبربرية والفاشية الصهيونية، ‏والمطلوب أن يستسلم الأسرى الفلسطينيون ويعلنون الطاعة والخضوع كي يستسلم الوطن ويسقط مفهوم ‏الرمز ومعاني الوطنية والحرية والانتماء. ‏


بلغ عدد الأسرى الفلسطينيون المحكومين بالسجن المؤبد أو عدة مؤبدات 551 أسيراً، يقضي 38 أسيراً من ‏بينهم أكثر من 25 عاماً، أقدمهم الأسرى كريم يونس وماهر يونس ونائل البرغوثي، والمؤبد في الحكم ‏الإسرائيلي هو مدى الحياة، حتى الأبد وانتهاء العمر، حتى الذبول والتلاشي، فالمؤبد هو دنيا الأسير ‏وآخرته، المؤبد هو تأبيد الاستعمار وقلع الشعب الفلسطيني من المكان والزمان، فالاحتلال يسعى أن يكون ‏احتلالاً مؤبداً، ويسعى أن يبقى الأسرى تحت سطوة مؤبداتهم في هذا القبر العميق المظلم، قبراً للحرية ‏والأحرار. ‏


المؤبد مشروع سياسي وعسكري وأيديولوجي، بديلاً عن أفران الغاز وحرق البشر، بديلاً عن حبل المشنقة، ‏هو الموت البطيء الناعم الذي يوصلك إلى مرحلة الفناء ماشياً على قدميك بلا اتجاه وبلا حدود، لا مكان ‏للاختباء، لا مكان للصعود أو الهبوط، يجردك من كل أسلحة الدفاع، ليكون المؤبد حفار العقل والإدراك ‏والإرادة وإنهاك الجسد والقوة الداخلية، إنهاك الذات، ترى قبرك قبل أن تموت، وترى القيامة أمامك، ولا مجال ‏للمفاوضة أو المقاومة. ‏


الأسرى المحكومون بالمؤبدات يتساءلون عن مصيرهم، لا محطة للوقوف، لا هدنة في المؤبد، لا محكمة ‏إنسانية ولا عدالة تطل عليهم، لا سحابة في السماء، زمن مفتوح، حياة بلا وقت، يكبرون ويشيخون ‏ويموتون في نفس المكان، يمتصهم الجدار، لا أثر لهم، أصبحوا بعيدين بعيدين، كأنهم لم يكونوا أصلاً، لم ‏يولدوا، نموهم الجسدي والعاطفي والعقلي يتشكل داخل دائرة مغلقة، عادات وسلوك ونظام وأفكار تتكون تحت ‏نظام السيطرة والقمع والملاحقة، لا شجر لا هضاب ولا بحر، اليوم هو الغد، والغد هو اليوم، التكرار واجترار ‏الذكريات والوقوف على العدد 3 مرات يومياً، التفتيشات والنقل من سجن إلى سجن، عالم الزنزانات ‏والبوسطات والأغلال والحجرات المسيجة، عالم الضرب والغاز المسيل للدموع ورؤية العالم الخارجي من ‏خلف الزجاج البارد أو من على الشاشات. ‏


المؤبد هو نظام الفصل العنصري الأبارتهايد، الرصاصة والحاجز والمستوطنة، الدبابة والصاروخ والانفجار ‏والاقتحام والمداهمة، النهب والسلب والهدم والتعذيب في الأقبية، لا حيز لك في المؤبد، لا جغرافيا ولا بيت ‏ولا ذكريات، لا دولة صغيرة ولا دولة كبيرة، لا سيادة لك على حياتك، المؤبد يملك حياتك ويقرر مصيرك ‏وفق قانون القومية أو الولاء أو الضم أو لائحة إدارة السجون، أو وفق تعليمات الإعدامات الميدانية ‏المتصاعدة، كل ما فيك لم يعد لك. ‏


المؤبد ليس له طبيب للعلاج، لا حبة دواء، لا عناية ولا رعاية، المؤبد هو مرض السرطان في أجساد ‏الأسرى، هو النظرة القومية المتعالية، هو الجنازة والمشيعين والطقوس وبيت العزاء والحداد، هو الدولة، هو ‏القانون، هو التوراة المسلحة، الأسطورة والبندقية والتخيلات التي لا تراك. ‏


الأسرى المؤبدات ينظرون في المرآة، كم يكرهون المرآة، ملامحهم، طفولتهم وشبابهم ونضارتهم وابتساماتهم ‏قد اختفت، يشيخ الحارس والباب والأسير لا يدري كيف يكبر، يصدأ الحديد ويتجدد، اكتشافات وتكنولوجيا ‏وثقافات وفيضانات وزلازل واحتفالات وعلاقات دولية والأسير واقف في المؤبد، لا علاقة تربطه مع أحد ‏سوى القيد وسجان يعشق العتمة. ‏


الأسرى يحطمون المرايا وينتفضون، يجرحون أجسادهم كي يروا دم المؤبد ولونه وطعمه، يحرقون المؤبد من ‏عقولهم، يستعيدون ما سرقه من ذكرياتهم وأحلامهم، يبحثون عن مسافة أخرى توصلهم إلى النهاية، ‏يستخدمون الملح والجوع والسحر والنبوءات ويستدعون الزعماء والرؤساء ومسؤولي مؤسسات حقوق الإنسان، ‏يريدون شباكاً كي يرونا، يريدون ابتسامة من قمر حقيقي يشهد على وجودهم ومكانتهم وأن لهم موقعاً في ‏السلام وفي حق تقرير المصير. ‏


الأسرى المؤبدات يثورون الآن، حملوا نعوشهم على رؤوسهم لمواجهة الموت خارج توقيت المؤبد، رفضوا ‏الخنوع حتى لا يسيروا في جنازاتهم طواعية ويدفنون في صمت المذبحة أو في الأرشيفات العسكرية بلا ‏أسماء، خلعوا الجدران عن أجسادهم، أرادوا اكتشاف أن هناك دنيا غير دنيا المؤبد، أرادوا أن يعرفوا أسباب ‏بقاءهم طوال هذه السنوات، تحليل لغة السلام والاستقرار وحل الصراع، تحليل قرارات الأمم المتحدة ‏والشعارات العاطفية، يحتاجون إلى حرارة المسدس في الكلمات، يحتاجون إلى مؤمنين ثوريين يوقفون هذه ‏الكارثة الإنسانية التي تسمى أحكام المؤبد، يريدون أن يخرجوا من الصور والرتابة والأغاني، أن يعيشوا ككل ‏البشر في هذا الكون بلا زنزانة تعانقهم حتى الأزل. ‏


الأسرى المؤبدات وصلوا إلى الحائط الأخير، لا الحرب أعادتهم إلى عائلاتهم ولا الصفقات ولا السلام، ‏تعرضوا لآلاف الطعنات، المساومة والمقايضة وفرض الاشتراطات الأمنية والتضييقات، ملفات حمراء ‏وخضراء، صمدوا كثيراً، قرأوا كثيراً، صنعوا زمناً آخر لهم فيه حياة مؤقتة، صبروا وانتظروا، تحملوا كل ‏الضربات، ولكن لم يأت أحد ليوقف المؤبد وينقذ الأسرى من غبار الغاز وعواء الكلاب البوليسية، العزل ‏وضجيج التفتيشات والهراوات وكآبة الأيام المتشابهة، هم لم يتغيروا نحن تغيرنا، فقدنا جزءاً من مشاعرنا ‏وانطفأنا، ولا زلنا لا نقاطع القضاء العسكري ونمثل أمام المؤبد في تلك المحكمة. ‏


الأسرى المؤبدات يثورون على سياسة الإذعان وسياسة الانتظار، عمر الإنسان وحقوقه لا تؤجل، يثورون ‏على هؤلاء الذين حاولوا أن يجمعوا بين السجن والسلام فوجدوا أنهم مقيدين في سلام السجن والخيبة ‏والاغتراب، فلا شيء في المؤبد إلا المؤبد، لا ينتهي ولا شيء يبدأ، يعطيك كل الوقت ويأخذ وقتك كله، كما ‏قال الأسير ناصر أبو سرور، يطحنك السجن ولا يظل منك سوى قميصك البني، وصورتك الباهتة، وما ‏كتبته في دفاتر السجن إلى أمك الصابرة. ‏


الأسرى المؤبدات يثورون على المؤبد، على المحكمة العسكرية الإسرائيلية، على الجيش والشرطة ‏والمخابرات وهذا التحالف الحربي الذي يشن حرباً وعدواناً عليهم على مدار الساعة، يثورون على القوانين ‏العنصرية الجائرة التي تتعامل معهم كحقل تجارب على فئران مذعورة، الانصياع وهندسة السلوك والعقل ‏والتدجين وتفكيك الوطن من أعماقهم والهوية والمقاومة. ‏


كيف نصل إلى تلك المعادلة المترابطة: من يحتجز أسيراً يحتجز وطناً وتاريخاً وثقافة وذاكرة؟ من يغلق ‏الحياة على إنسان مناضل يغلق بلد، من لا يقفز عن السياج ويحفر تحت اسمنت المؤبد ليس له فضاء ‏ولن يسمع أغنية. ‏


الأسرى المؤبدات يثورون على المؤبد، يحررون زمنهم القادم كي يصلوا المستقبل، يكتبون الآن روايتهم ‏الجماعية الأخيرة، يخرجون من غموض المؤبد، يخاطبون أجيالاً وفتية ولدوا بين حاجز ومستوطنة، ‏يخاطبون المدن والقرى والمخيمات وكل البشر، يصرخون فينا أن نتحرر من الانهزامية والعجز والمرض ‏الكياني، أن نتحرر من الانقسام والتشطي لندرك أن خلف الباب قناص، خلف كاميرا المراقبة جندي يجيد ‏إطلاق الرصاص، خلف البنك الدولي والمساعدات أجهزة للتطبيع والتحوير تتعامل معك كغريزة أو جثة ‏تمشي على أربع. ‏


الأسرى المؤبدات يدقون جدران المؤبد، يحطمون هذه الماكنة التي تهرسهم منذ سنوات، يجب تغيير المفاهيم ‏والاعتقادات، يجب وقف هذه الحرب على الإنسان التي تستهدف تحويل الإنسان إلى شيء آخر غير ‏الإنسان، إنقاذ الروح التحررية، إنقاذ حصانة الشرعية النضالية الوطنية للشعب الفلسطيني، اليقظة الذهنية، ‏القفز عن السور الذي يسمى المؤبد، الخروج من الأقفاص، فلا شيء أسوأ من المؤبد والعبودية، ولا شيء ‏أسوأ من أن تترك حياتك تتعفن في السجن ليقودك المؤبد إلى المقبرة، كونوا أيها الناس كمثل طائر الصدى ‏الذي يخرج من هامة الأسير يحلق ويصرخ حتى يسقط القاتل وتتحرر الضحية. ‏ 

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر وكالة صدى نيوز.