مناشدة أخيرة لإنقاذ حل الدولتين
كما جرت العادة خلال سنوات تولي الرئيس محمود عباس دفة القيادة الفلسطينية، سيذهب خلال شهر أيلول الحالي لإلقاء كلمة فلسطين في الاجتماع السنوي للجمعية العامة للأمم المتحدة، والذي يكون عادة كما لو كان مراجعة سنوية لأحوال المجتمع البشري، وكالعادة أيضا من المتوقع أن تتمحور كلمة الرئيس عباس حول ضرورة قيام المنظمة الدولية بمسؤوليتها تجاه فلسطين، بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي لأرض دولتها، وإنقاذ حل الدولتين المتجاورتين قبل فوات الأوان.
وقد تكون تلك هي الفرصة الأخيرة، وذلك ليس ارتباطا بشخص الرئيس عباس، أطال الله في عمره، ولكن ارتباطا بالوقائع التي استحدثتها إسرائيل على الأرض، والتي جعلت من تطبيق حل الدولتين القائم على أساس حدود العام 67، أمرا في غاية الصعوبة إن لم يكن قد بات أمرا مستحيلا، ما يعني أن تشهد المنطقة فصلا دمويا عنيفا، لتهيئة الأجواء لحل آخر، ظن العديدون ــ ونحن منهم ــ لوقت بأنه سيعني بالضرورة الانتقال لحل الدولة الواحدة، حيث ستكون إسرائيل مضطرة إلى تطبيق نظام الفصل العنصري، على الشعب الفلسطيني، أو إلى الذهاب لنظام المساواة في المواطنة، وهذا أمر مستبعد بالطبع.
لكن الحقيقة أن إسرائيل التي لم تواجه، والتي ليس من المتوقع أن تطالب من قبل الغير، نقصد العرب والعالم، دون الشعب الفلسطيني بتطبيق العدالة، ولا الالتزام حتى بالمعايير فضلا عن القرارات والقوانين الدولية ذات الصلة والعلاقة بصراعها مع الشعب الفلسطيني، لن تكون إسرائيل مجبرة سوى على ما يفرضه عليها الشعب الفلسطيني نفسه، وليس أحدا غيره، وهذا يعني أن يبدأ فصل جديد من المقاومة الشعبية الفلسطينية، يجبرها كما أجبرتها من قبل انتفاضة العام 1987، على اتفاق أوسلو، يجبرها الفصل الجديد من المقاومة على الانسحاب، والتوصل إلى حل يقبله الشعب الفلسطيني.
ويبقى في جعبة إسرائيل حقيقة، في ظل موازين القوى والواقع الحالي، الكثير من الحلول، فهي يمكنها أن تقدم حل الدولتين ولكن ليس على أساس حدود 67، بل على أساس سايكس بيكو ــ وعد بلفور، أي على أساس حدود نهر الأردن، أي أن حل الدولتين وفق إسرائيل يقوم على أساس أن الدولتين هما شرقي وغربي النهر، وبذلك يمكن أن تدفع الحل باتجاه اتحاد ما يتبقى من كتل جغرافية في الضفة الغربية والأهم بالطبع هو سكان الضفة والقدس من المواطنين الفلسطينيين مع الأردن، خاصة ان ذلك الاتحاد كان موجودا قبل العام 67، ويمكن لغزة أن تلتحق بهذا الاتحاد والذي سيكون بذلك اتحادا كونفدراليا، وليس اتحادا فدراليا أو وحدة اندماجية، لتحقيق شراكة فلسطينية افضل مما كان الحال عليه ما بين عامي 48 ــ67، ويمكن للفلسطينيين أن يختاروا حل دولتي الأردن وإسرائيل أو غيره.
أما حل الدولتين الآخر، فهو دولتا فلسطين وإسرائيل، ويرتكز وفق وجهة نظر إسرائيل على أساس تبادل الأراضي، الذي اقر به من حيث المبدأ من قبل الجانب الفلسطيني، لكنه كان دائما يقول بعدم تجاوزه لنسبة 3%، لكن إسرائيل ستطالب بقوة الأمر الواقع أن يصل إلى نسبة 40%، أي ضم كل المستوطنات لها، في مقابل ربط كتل الضفة الجغرافية بقطاع غزة، مع تبادل أراض يتسع بها قطاع غزة، وهكذا يمكن أن تبقى دولة فلسطين تحت رحمة إسرائيل، التي ستظل تتحكم بخط الربط بين غزة والضفة، إن كان من خلال طريق معبد أو نفق تحت الأرض، أو ما شابه من اقتراحات كانت متداولة من قبل، أي أيام كانت مفاوضات أوسلو حول الحل الدائم قائمة.
ويمكن بالطبع أن تصر إسرائيل على فصل الحل على الجانب الفلسطيني، أي بدل حل الدولتين، حل الثلاث دول، بأن يختلف الحل مع غزة عنه مع الضفة الغربية، المهم في الأمر أن شكل وطبيعة الحل سيبقى بيد الشعب الفلسطيني، الذي عليه أن يظل يقاوم، وان يحتفظ بالطابع والإطار الشعبي للمقاومة، من جهة ومن جهة أخرى، أن يراقب ويتابع المستجدات الدولية، التي ستكون عاملا حاسما جدا في الأعوام القليلة القادمة، حيث يتشكل النظام العالمي الجديد ما بعد النظام أحادي القطب الذي قادته أميركا.
أما شكل وجوهر الدولة الفلسطينية فيجب أن يتوافق مع النظام العالمي الجديد، وحتى مع النظام الإقليمي، لا وفق ما تقرره إسرائيل، وإلا لا يمكن فرض دولة جديدة على مجمل الكون، وعلى كل الجيران، وإسرائيل نفسها القائمة منذ اكثر من ثمانية عقود، ستكون مضطرة لتغيير جوهرها وطبيعتها بما يتوافق مع النظام العالمي الجديد، خاصة أنها تشكلت وفق معايير وعلاقات النظام الاستعماري القديم، وبقيت قائمة بطبيعتها العنصرية وطابعها الاحتلالي في ظل نظام القطب الواحد العالمي، الذي حماها ورعاها.
ومن أجل أن يكون الشعب الفلسطيني مقررا لمصيره بنفسه، يتوجب على القيادة الفلسطينية أن تتحول إلى قائد ميداني يقود مقاومة شعبية فلسطينية من جهة، ومن جهة أخرى أن تبدأ في نسج العلاقات مع أركان النظام العالمي الجديد، ومنه دولتا الصين وروسيا، وألا يقتصر رهانها لا على الولايات المتحدة ولا على الاتحاد الأوروبي، رأس وقاعدة هرم النظام العالمي أحادي القطب المنحاز لإسرائيل، والذي فشل حتى في فرض دولة فلسطينية ديمقراطية وعلى نصف ارضها وليس على أرضها كلها المقرة وفق قرار التقسيم 1949.
والصين التي تنافس حاليا أميركا على قيادة العالم، تعد مشروع ربط مئة دولة في العالم اقتصاديا، عبر شق طريق حرير عصري، على فلسطين أن تجد لها مكانا في النظام العالمي الجديد متعدد الأقطاب، الذي يقوم على ثنائية المصالح والأخلاق والمبادئ، وحيث إن الصين بالذات قد انطلقت كمارد اقتصادي وعسكري عالمي، بعد أن عانت من الاحتلالات البريطانية واليابانية طويلا، والتي بفضل أنها كانت دولة زراعية، وكانت ضمن قيادة دول عدم الانحياز، فإنها تفهم المعاناة الفلسطينية جيدا.
هذا هو الأفق الوحيد الذي يظهر لمن لا يريد أن يستسلم لواقع ظالم مفروض بقوة الاحتلال، لحل المسألة الفلسطينية التي أولا وأخيرا دون مقاومة شعبية فلسطينية، لن يهتم بها احد، والذي يبقى أولا وقبل كل شيء رهنا بإرادة الشعب الفلسطيني، الذي سبق له وان فرض حلا ظل على الورق ولم يطبق، العام 1993، وذلك في أوسلو، رغم أن النظام العالمي شق طريقا آخر قبل ذلك بعامين في مدريد، وما أن فرض الشعب الفلسطيني على إسرائيل ذلك الحل، حتى سارعت قائدة النظام احدي القطب العالمي، أي أميركا إلى مباركته ورعايته، باختصار، يبقى الحل بين يدي الشعب الفلسطيني، يفرضه بمقاومته على إسرائيل أولا، ومن ثم على العالم بأسره بعد ذلك.