هل فشل الاتفاق النووي؟
عندما تلوم أوروبا الغربية، وخصوصاً ألمانيا وفرنسا، إيران، وتحمّلها مسؤولية فشل الوصول إلى اتفاق في فيينا، وهي ــ أي أوروبا ــ صاحبة مصلحة كبيرة في اتفاق كهذا فهذا يعني على الأقل أن إيران لم ترَ في النسخة التي قُدّمت لها كنسخة «نهائية» ما يُحقق مصالحها، أو يستجيب لطلباتها، أو يبدّد مخاوفها.
وعندما تتبرّع أوروبا بتحميل طهران مثل هذه المسؤولية نيابة عن الولايات المتحدة ودعماً لموقفها فهذا يعني، أيضاً، أن «استراتيجية» الإفشال، والتي ستوصف بالتأجيل إلى ما بعد الانتخابات النصفية الأميركية فهذا يعني ويكشف، إن لم نقل يفضح الأهداف الأميركية من الاتفاق، أو لنقل بالأحرى إن الولايات المتحدة، ومن خلفها أوروبا كانتا تناوران في الحلبة السياسية، أو في حلبة اللعبة السياسية الدولية وليس بقدرة إيران «النووية»، وبمستقبل هذه القدرة على صناعة القنابل النووية بدليل أن «الشروط» التي رفضتها إيران في معظمها لا تتعلق بهذه المسألة، وإنما تتعلق بالقيود «السياسية» والاقتصادية على إيران، وكذلك برفض الولايات المتحدة وأوروبا إعطاء إيران أي ضمانات تتعلق بمستقبل الاتفاق.
ولهذا فإن المسألة وما فيها ليست «نووية» بقدر ما هي سياسية. ولأن المسألة سياسية وليست «نووية» فعلاً فقد فشل أو أُفشل الاتفاق لأن أمور المعارك في أوكرانيا «استجدّ» عليها، الكثير من الجديد كما تظنّ وتقدّر الولايات المتحدة، وكما تريد أوروبا أن «تظن» هي، أيضاً.
تحاول الولايات المتحدة أن تقنع أوروبا أن مستجدات أزمة الطاقة ربما باتت «مؤقتة» في ضوء المستجدات الأوكرانية، وأن بالإمكان إرغام روسيا على الجلوس إلى طاولة المفاوضات قبل اشتداد مسألة الطاقة لأوروبا، وقبل الشتاء، وأن أبعد التقديرات لن تتجاوز الثلاثة أشهر القادمة، أي مع نهاية خريف هذا العام.
ولهذا فليس هناك في الواقع رابط حقيقي بين الانتخابات النصفية الأميركية وبين فشل أو إفشال، أو حتى تأجيل الاتفاق بقدر ما أن الرابط الحقيقي هو الرابط مع هذه التقديرات الأميركية.
على الجانب الإيراني، وبما أن الاتفاق لم يكن ليبدأ أصلاً قبل خمسة أشهر من توقيعه، وبما أن المراحل لتطبيقه كانت ستتوالى وفق ما يتم التأكد من إنجازه مرحلة بعد أخرى فقد فهمت إيران أن الاتفاق وفق هذا التصور قد تم إعداده خصّيصاً وتحديداً على هذه الشاكلة من أجل «التحكّم» الأميركي والأوروبي بالاتفاق، ومن أجل إعطاء فرصة كاملة لكلتيهما معاً بالتنصل من الاتفاق حسب الرغبة والحاجة والقدر المطلوب لهذا التنصّل تحت مختلف الذرائع والحجج التي لن تعدم أميركا وأوروبا الوسائل في إيجادها، أو التذرّع بها، أو اختراعها إذا لزم الأمر.
وبالعودة إلى ارتباط الاتفاق النووي بالحرب في أوكرانيا ــ كما أشرنا أكثر من مرة من على صفحات «الأيام» ــ فإن أوروبا عادت لتغامر بمستقبلها ودورها ومكانتها، وقبلت الانقياد التام للولايات المتحدة بالرغم من كوابيس الشتاء والطاقة، وبالرغم من أخطار تعرض أو إمكانية تعرض صناعاتها لنكسات كبيرة ودخول معظم البلدان الأوروبية في أزمات اقتصادية كبيرة قد تكون الأكبر والأخطر بعد الحرب العالمية الثانية، إضافةً إلى الأزمات السياسية والاجتماعية التي باتت بوادرها ماثلة للعيان.
أوروبا، الآن، تضرب كل ذلك بعرض الحائط «أملاً» بأن ينجم عن التطورات العسكرية في أوكرانيا ما يحقق «إرغام» روسيا على التراجع، أو على الجلوس إلى طاولة المفاوضات لإيجاد مخرج أو حل سياسي يُنهي الحرب بشروط تمنع الروس من تحقيق إنجازات كبيرة، أو على الأقل، الوصول إلى حلول وسط لبعض الشروط الروسية.
في الواقع فإن أوروبا تلعب بكاملها «سُلدِها» كما يفعل لاعب «البوكر»، وهي تفعل ذلك في لحظة أمل ضعيف ولحظة يأسٍ تبدو كبيرة.
المراهنة الأميركية والأوروبية على القوات الأوكرانية التي وصل تعدادها على جبهة «الدونباس» إلى حوالي نصف مليون جندي، مزوّدين بأحدث الأسلحة من «الناتو» في محاولة لاستثمار التفوق العددي الكبير مقارنة بالقوات الروسية وقوات الجمهوريتين.
هذه المراهنة فيها من المراهقة السياسية ما يكفي لأن المناطق التي تتحدث عنها أوكرانيا هي ليست أصلاً من «الأهداف» الروسية، والتقدم الذي تتحدث عنه وعن تحريره أوكرانيا لم يكن أصلاً للروس أي أهداف بالسيطرة عليه، ما يعني أن المسألة هي استعراضية وإعلامية ليس إلّا.
بل من السهل على القوات الروسية إنشاء خطوط دفاعية أكثر أهمية ومتانة بعد تشتيت التفوق العددي الأوكراني، إضافةً إلى إجبار هذه القوات على الدفاع عن مناطق في الجنوب تستطيع القوات الروسية دخولها وإجبار أوكرانيا على تراجعات أكبر بكثير من تراجعات القوات الروسية، ولعلّ بعض المراقبين هنا بات على قناعة أن روسيا تناور من أجل السيطرة على «أوديسا» نفسها.
الحقيقة أن ما يجري تصويره وكأنه «تغير استراتيجي» في مسار الحرب الأوكرانية هو كذبة أوكرانية كبيرة تريد الولايات المتحدة أن تصدقها، وتريد أوروبا أن تؤدي إلى وقف الحرب حتى تخرج «سريعاً» من أزماتها.
الذي يجب أن نعترف به أن الولايات المتحدة تجرّ أوروبا من أُذنها في كل مرة إلى حيث تريد الأولى، وإلى حيث تحقق أميركا مصالحها الخاصة على حساب أوروبا بالذات، وعلينا أن نعترف أننا جميعاً «نراهن» على أن أوروبا ربما ستتمرّد على هذا الواقع المأساوي بالنسبة للشعوب الأوروبية لكن دون جدوى.
لا يوجد تفسير منطقي مقنع كيف تقبل أوروبا أن تتضرّر مصالحها إلى هذه الدرجة دون أن تضع حداً لهذا المسار الذي يهدد اقتصاداتها، ويهدد استقرارها السياسي والاجتماعي، وينذر بأفدح الخسائر على كل المستويات وفي كل المجالات إلّا التفسير التالي.
إذا تفكك الحلف الأميركي الأوروبي فإن غالبية الدول الأوروبية الشرقية سابقاً مع بريطانيا ستعقد ربما حلفاً جديداً تصبح بموجبه فرنسا وألمانيا «تحت رحمة» روسيا وستخسر مكانتها السياسية، ولن تتمكن من إقامة تحالفات من أي نوع كان لا مع روسيا ولا مع الصين، ولا حتى مع بعض البلدان الآسيوية الحليفة لأميركا مثل اليابان وكوريا الجنوبية، وهي فقدت إمكانية التحالف الجدّي مع البلدان الصاعدة مثل الهند والبرازيل وغيرهما من البلدان التي بدأت تتعملق اقتصادياً ما «يجعلها» تغامر بكل شيء «علّها» تخرج من نتائج هذه الحرب بأقلّ الخسائر.
فهمت إيران كل هذه الألاعيب، وهذه المراهنات، وهذه المناورات ولم ترضخ بكل بساطة لأنها تستمر في إنتاج النفط بمعدلات عالية نسبياً، وتستفيد من فارق الأسعار بالنسبة للنفط والغاز، وتزيد علاقاتها توطداً مع روسيا والصين وتركيا والهند وبلدان آسيوية كبيرة، وهي بالتالي ليست في عجلةٍ من أمرها، وتستطيع أن تنتظر ليس فقط الخريف والشتاء، وإنما ربيع وصيف العام القادم ونهايته، أيضاً.
وفهمت إيران أن بايدن أصبح في ورطةٍ لا تقلّ عن الورطة الأوروبية، حتى ولو أن مصالحه الاقتصادية أقلّ عرضة للخسائر من الخسائر الأوروبية، وحتى لو أن «خسائره» الاقتصادية تبقيه خارج الخسائر المادية المباشرة والعسكرية بعيداً عن ساحات الحرب.
الذي أفشل الاتفاق هو أوهام المراهنات الأميركية والأوروبية على حرب يستحيل ربحها، والذي أفشله كذلك قدرة إيران على الحسابات السياسية الصائبة في معادلات اللحظة الدولية.