الخطاب الفلسطيني: بين استطاعة الرئيس وحاجة الشعب
بعد أي خطاب مهم يلقيه زعيم شعب في مرحلة تاريخية مصيرية، توجد نقطة مركزية هي المهمة، والباقي ليس مهمًا أو أقل أهمية، وتكون واضحة أحيانًا، وبحاجة إلى جهد لاكتشافها في أحيان أخرى، والنقطة الأهم في خطاب الرئيس محمود عباس أمام الجمعية العامة يوم الجمعة الماضي كانت غامضة، وهي في نهاية الخطاب حينما طالب الحكومة الإسرائيلية بإثبات جدية حديث يائير لابيد عن حل الدولتين بالجلوس فورًا لتنفيذ القرارات الدولية ذات العلاقة، ووقف الخطوات أحادية الجانب، والغموض يرجع إلى عدم ثقة الرئيس بإمكانية تحقيقها.
فالرئيس يائس من إمكانية استئناف المفاوضات على أساس حل الدولتين أولًا؛ لأن الحكومة الإسرائيلية القادمة ستكون على الأغلب يمينية برئاسة بنيامين نتنياهو، وإذا ترأسها لابيد لن تتبنى رؤيته لحل الدولتين، بدليل أن بيني غانتس، وزير الحرب، وشريكه المحتمل في الحكومة القادمة رفضها، وكما سيفعل شركاؤه الآخرون، حتى لو كانت وفق الاشتراطات الأمنية، وأنها ستكون أقل من دولة وأكثر من حكم ذاتي كما قال لابيد قبل خطاب الرئيس في الأمم المتحدة، وبعد الخطاب قال بإن الدولة لن تقوم في عهده، بل "ربما أحفادنا أو أبناؤهم سيتوصلون إلى نهاية الصراع".
خطابٌ يعكس الضعف والانقسام وغياب الرؤية والخطة
كل الجديد المهم الذي تضمنه خطاب الرئيس حول عرض الرواية التاريخية الفلسطينية، بدءًا من وعد بلفور والانتداب والنكبة وحرب حزيران والمعاناة الفلسطينية المستمرة، وتوقفه اللافت عند الأسرى، و"اللي بدو يزعل يزعل"، كما لم يفعل من قبل، ولكنه لم يؤسس لمسار جديد، بل عكس خصوصًا عند خروجه عن النص المكتوب حيرة وغضبًا ويأسًا واستجداء وتوهانًا يصب في استمرار حالة الانتظار المستمرة منذ أكثر من 12 عامًا على الأقل بانتظار غودو الذي لن يأتي، والحل الذي لن يهبط من السماء أو يصعد من باطن الأرض.
فالرئيس "تراجعت" ثقته بالمجتمع الدولي وإمكانية السلام بعد مسيرة الخذلان، وعدم تطبيق قرار واحد منذ النكبة وحتى الآن من أصل 947 قرارًا صدرت عن الجمعية العامة ومجلس الأمن ومجلس حقوق الإنسان، ولكنه مع ذلك طالب بتنفيذ القرار 181، وقدم طلبًا للحصول على العضوية الكاملة لدولة فلسطين.
الاعتراف بالخطأ فضيلة، ولكن
اعترف الرئيس بأنه أخّر تنفيذ القرارات الصادرة عن الهيئات الفلسطينية لعل وعسى يختلف التصرف الأميركي والدولي، وهذا خطأ والاعتراف به فضيلة، ولكنه مع ذلك لم يحسم قراره بتنفيذ هذه القرارات، بل تحدث عن الحق في عدم الالتزام من جانب واحد وعن ضرورة عدم الالتزام.
وما يعزز الإعفاء السابق عدم إشارة الرئيس في خطابه ولا بكلمة واحدة إلى الوحدة، واستعداده والتزامه ببذل كل ما يمكن لإنجازها، على الرغم من أن وفدي فتح وحماس أنهوا لتوهم في العاصمة الجزائرية لقاءات مع المسؤولين الجزائريين استعدادًا للقاء بمشاركة مختلف الفصائل ومستقلين مفترض أن يعقد في الثاني من شهر تشرين الأول القادم.
كان الرئيس سيمنح خطابه مصداقية وجدية لو تناول مسألة الوحدة الوطنية كما تستحق، وسهّل إمكانية تحقيقها، بالتخلي على سبيل المثال لا الحصر عن شرط الموافقة على شروط الرباعية الدولية، وخصوصًا أن الرباعية ماتت.
المقاومة من أهم مقومات البديل المنتظر
لم يلتزم ولم يشر الرئيس في الخطاب إلى حق الشعب الفلسطيني في الدفاع عن نفسه وممارسة المقاومة بكل أشكالها المقرة في جميع الشرائع الدنيوية والدينية، بل التزم بمحاربة السلاح والعنف والإرهاب في كل العالم، ولا يدري أحد ولا يستطع أن يجزم كيف سيتصرف بعد أن قال بعدم وجود شريك إسرائيلي وقيام الاحتلال بكل أنواع الجرائم والعدوان؛ حيث لم يضع رؤية ولا خطة للتصرف في ضوء ما عرضه، ولم يهدد ولم يفسر لماذا لم ينفذ تهديده الذي أطلقه أمام منبر الأمم المتحدة في خطابه العام الماضي، لدرجة أنه لم يعط مهلًا وإنذارات جديدة كما فعل مرات عدة في السابق، كما لم يطالب لأول مرة بعقد مؤتمر دولي، وهذا أمر جيد، كون هذه الفكرة غير قابلة للتحقيق الآن، خصوصًا بعد تداعيات الحرب في أوكرانيا.
وعلى الرغم من التزامه بالانتخابات، ولكنه رهن إجراءها بموافقة الاحتلال سواء طواعية بمبادرة منه؛ أي الاحتلال، أو مرغمًا على إجرائها، وهذا يضع الفيتو على إجرائها في يد إسرائيل.
لم يتطرق الرئيس ولو بكلمة واحدة إلى أهمية إحياء البرنامج الوطني واستبدال المفاوضات بالصراع، ولا حتى حول إعادة بناء مؤسسات منظمة التحرير لتضم مختلف ألوان الطيف السياسي والاجتماعي، من خلال تشكيل مجلس وطني جديد، ولم ينبس ببنت شفة حول تفعيل منظمة التحرير بمكوناتها الحالية التي تعاني من موت سريري، ومن تحول اللجنة التنفيذية إلى هيئة استشارية، ومن مقاطعة أو استبعاد فصائل أساسية لها وللمجلس المركزي الذي استحوذ على صلاحيات المجلسين الوطني والتشريعي.
لم يلتزم الرئيس بالتخلص من الالتزامات المترتبة على اتفاق أوسلو الذي دمرته إسرائيل كما قال محقًا، واكتفى بالتلميح لذلك، على الرغم من صدور قرارات من المجلسين الوطني والمركزي بهذا الخصوص منذ سنوات ولم تنفذ، ولم يشر إلى ضرورة تغيير السلطة بعد أن تخلت إسرائيل كليًا عن أوسلو، أو تحويلها إلى دولة تحت الاحتلال كما كان يقول سابقًا، وعندما طلب من الأمين العام تنفيذ القرارَيْن 181 و194، فهو يدرك أن هذا إذا كان جديًا يغير قواعد اللعبة جذريًا، وهو لم يتصرف على هذا الأساس، كما أن هذا الأمر ليس من صلاحيات الأمين العام، وإنما من صلاحيات الجمعية العامة التي ورثتها من عصبة الأمم، وهذا مستحيل التحقيق في الظروف الدولية الراهنة، فمن لم يطبق القرارات التي تطالب بالانسحاب من الأراضي المحتلة العام 1967، كيف سيطبق حق العودة والتعويض للاجئين وسحب الأراضي التي ضمتها إسرائيل فوق ما منحه لها قرار التقسيم وضمها للدولة الفلسطينية؟!
كتاب ومثقفون يسحجون أو يتطرفون
العجب العجاب من الكتاب والمثقفين والأكاديميين والسياسيين والإعلاميين الذين إما حمّلوا الخطاب أكثر ما يحتمل بكثير، لدرجة اعتبروه بمنزلة إلغاء لأوسلو، أو خروج رسمي منه، أو وضع خارطة طريق وطنية، أو الذين لم يروا أي جديد فيه، واعتبره مجرد استمرار للموقف القديم من دون أي تغيير، فهو خطاب - على الرغم مما هو جيد فيه - يعكس الضعف والانقسام واليأس والضياع والتوهان وغياب الرؤية والخطة، وهناك جديد فيه غير كافٍ؛ مما يجعله يصب الماء في طاحونة القديم إذا لم يتم بلورة رؤية وخطة لتجاوز الوضع القائم، ومنهم من يقول إن الخطاب يمثلني، وإنه جيد ومختلف عن الخطابات السابقة، ولكن ضعيف، وتنقصه الرؤية والخطة، وكأن ذلك مسألة ثانوية.
لو كان هذا الخطاب في بداية عهد الرئيس في العام 2005، أو في العام 2010، أو في العام 2011 أو 2012 أو 2014، لكان خطوة إلى الأمام، وأنا كتبت مقالًا في أيلول 2011، بعد خطاب الرئيس في الأمم المتحدة، بعنوان "من الذي وضع الأسد في قلب أبو مازن"، ففي ذلك العام، والذي يليه، تقدم بطلب للحصول على العضوية الكاملة لدولة فلسطين في مجلس الأمن، وحصل على العضوية المراقبة في الجمعية العامة، وانضم إلى وكالات ومعاهدات دولية متعددة ومهمة، وتحدث عن السلطة بلا سلطة، وعن تسليم مفاتيحها للاحتلال، وعن أهمية الوحدة الوطنية غداة توقيع اتفاق القاهرة في أيار 2011، ولكنه لم يواصل السير في هذا الطريق، طريق الخلاص الوطني، وتعامل مع هذه الخطوات المهمة بوصفها تكتيكًا لتحسين فرص استئناف المفاوضات الثنائية، وليس إستراتيجية جديدة.
الاستجداء لا يقدم حلًا أو بديلًا
ما يقلل من أهمية الجديد لغة الاستجداء التي ميزت الخطاب، كما ظهر في استخدام كلمات وعبارات، مثل: "لن نلجأ إلى السلاح والعنف والإرهاب، بل سنحارب الإرهاب معكم في كل مكان"، "لماذا لا تعاقب إسرائيل ومن الذي يحميها، أنا لا أعرف، هل تعرفون؟"، وبعد ذلك يقول إن الأمم المتحدة والمتنفذين فيها هم المسؤولون عن عدم التنفيذ، وقال "لا نريد أن نقوم بأي عمل أحادي"، ثم يضيف "إلى متى سنبقى ملتزمين"، و"من حقنا أن نبحث عن وسائل أخرى"، و"نريد أن نعيش معهم مع إسرائيل"، و"من شان الله احمونا احمونا من العدوان"، و"كل هالهالة والزيطة والزمبليطة"، و"إذا كان حاكمك ظالمك تشكو أمرك لمين"، و"لا حدا داري فينا ولا حدا سائل عنا"، " وزبلونا" و"إيش ناقصنا، والله مش ناقصنا ايد ولا رجل"، و"نتمنى ونترجى ونقول لكم دخيلكم احنا الحيطة المايلة"، و"انتظرنا طويلًا وتعبنا طويلًا، فهل لديكم حل، أريد حلًا"، و"أسير (عن ناصر أبو حميد) ارتكب جريمة بس مريض يجب أن يعالج"، و"نأمل منكم"، و"نرجوكم"، و"نتمنى عليكم"، و"ارحمونا ... 100 سنة بنقول احمونا، ولاحدا سائل فينا".
مثل هذه اللغة الضعيفة اليائسة تضعف الخطاب وكل العبارات القوية التي تخللها؛ لأنها لا تعكس إرادة الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة والمتفوقة أخلاقيًا وعنفوانه وصموده ومقاومته، والعالم لا يسمع صوت الضعيف وإنما صوت القوي، أو الضعيف القوي، وكم ضعيف قوي هزم أقوى الأقوياء إذا توفرت لديه الرؤية والخطة والإرادة اللازمة والقدرة على توظيف القوة الذكية والقدرات المتاحة والنفس الطويل وجمع أوراق القوة والضغط على نقاط ضعف العدو.
خطبة الوداع ... ربما، والرئيس يرفض الاستسلام
مع كل ما تقدم، لا شك أن الرئيس حائر غاضب يائس تائه، ولا يعرف ماذا يفعل، وقدم في خطابه ما يستطيع تقديمه، والشعب بانتظار أن يصوغ الرئيس، أو الأصح يفتح الطريق لمن بعده لصياغة الخطاب الذي يحتاج إليه الشعب.
وفي الختام، تقتضي الأمانة الإشارة إلى أن الرئيس على الرغم من كل الانتقادات المحقة لخطابه وأدائه؛ ظهر في خطابه وكأنه يخاطب شعبه أكثر ما يخاطب الأمم المتحدة التي خذلته، ولا يريد أن يستمر بتغطية ما يحصل من تصفية للقضية بكل أبعادها، ولا أن يستسلم، وهذه نقطة مهمة جدًا، وهي التي عرضته لهجوم إسرائيلي على خطابه، ويجب البناء عليها، وقد تكون، وربما يستحسن أن تكون، خطبة الوداع، فهو يتبنى مقاربة لا يستطع أن يحيد عنها حتى لو كفر بها، وفي عمر لا يستطيع أن يشق طريقًا جديدًا، خصوصًا أن عنوانه الأساسي المجابهة مع الاحتلال لتغيير موازين القوى التي من دون تغييرها لا يمكن إنجاز الحقوق الوطنية الفلسطينية، ويظهر ذلك فيما جاء في نهاية خطابه عن مسيرته التاريخية والقادة الذين ساروا فيها، ومنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر.
لقد خطب بما يعتقد أنه يستطيع، ويتناسب مع الواقع الحالي، وهو محدود جدًا، و"لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها"، وعليه أن يسلم الراية لمن يستطيع، فالمهم الآن والأولوية التي تعلو على كل شيء، ليس اختيار الخليفة والخلفاء، وإنما اختيار الهدف والطريق، وتحديد البرنامج المتوافق عليه وطنيًا، وبعد ذلك اختيار الخليفة والخلفاء القادرين على تنفيذه.