إعلان الجزائر: وثيقة جديدة لأرشيف المصالحة
جولة الجزائر لما اصْطُلِح على تسميته الحوار الوطني من أجل المصالحة، وما صدر عنها من إعلان سمّي إعلان الجزائر، قابلها الرأي العام الفلسطيني بنوع من عدم الاكتراث وكأن الأمر لا يعنيهم، وهذا دون شك له أكثر من دلالة ومعنى، في مقدمتها أن الشعب المؤمن بضرورة استعادة الوحدة الوطنية لم يعد يلدغ مرة ثانية وثالثة من جُحر الطبقة السياسية الضيّق، بعد أن ذاقوا وما زالوا يذوقون مرارة الانقسام وعدم تنفيذ الاتفاقيات الموقعة بين طرفَي الانقسام، خلال إحدى عشرة جولة حوار جابت ثماني عواصم عربية وأجنبية، عدا حوارات بينهما تمّت في رام الله وغزة، تمخض عنها توقيع ست اتفاقيات، وللأسف كلها لم تجد طريقها إلى التطبيق لا كلياً ولا جزئياً.
ومن نافلة القول، إن غياب الإرادة لنقل الاتفاقيات التي يوقعها الطرفان إلى حيز التنفيذ خلق في أوساط الرأي العام والشارع عموماً عدم مصداقية تجاههم، خصوصاً أن التحديات التي تواجه المشروع الوطني الفلسطيني جراء سياسات الاحتلال التوسعية والقمعية تتعاظم، دون أن يوازيها تغليب للمصلحة الوطنية على حساب الاعتبارات والمصالح الفئوية التنظيمية من قبل طرفَي الانقسام، وهو ما وسّع الهوة ما بين الناس وأولوياتها وما بين الفصائل التي حوّلت الحوار إلى حالة عبثية دون جدوى.
وتضمن اتفاق الجزائر المقدم بداية من الجزائر تسع نقاط رئيسة، وهو بهذا المعنى عبارة عن صيغة إعلان عامة احتوت على بنود مفصلية ذات معنى، جوهرية ومباشرة وذات صلة، من شأنها أن تضع الخطوة الرئيسة في مسار المصالحة، وأهمها الوحدة الوطنية، وإجراء انتخابات المجلس الوطني الفلسطيني بمشاركة الجميع، والإسراع بإجراء انتخابات عامة رئاسية وتشريعية في المناطق الفلسطينية بما فيها القدس، وتوحيد المؤسسات الوطنية بما يمهد الطريق إلى تحقيق المصالحة.
وبطبيعة الحال، فإن البنود المشار لها على عموميتها مستقاة من معرفة الجزائر بقضايا الخلاف وعناوينه بشكل مباشر وعميق، وبالتالي فهذا ليس مأخذاً على الاتفاق بحد ذاته، لأن الجميع في الساحة الفلسطينية يدرك أن مكمن الخلل ليس في الصياغات، بل في غياب إرادة سياسية لدى الأطراف الفلسطينية لتحويل تلك النقاط إلى برنامج عمل بآليات تنفيذية واضحة، بمتابعة دولة الجزائر التي تتمتع برصيد وافر من احترام الاتجاهات السياسية والشعبية الفلسطينية كنموذج نضالي مُلهم لجميع حركات التحرر الوطني.
وإذا ما غلبنا التشاؤم على التفاؤل الحذر، هناك من يرى أن نقض الإعلان حصل قبل فضّ الاجتماع والتوقيع عليه، للأسباب الفئوية التي رافقت جميع الاتفاقيات وجولات الحوار، لدى شطب بند تشكيل حكومة وحدة وطنية، بسبب إصرار القطبين على الاحتفاظ بالرؤية الضيقة لشروط وأسس تشكيل حكومة الوحدة الوطنية، وفي النتيجة أفرغ الإعلان من دسمه وأبعاده العملية لدى شطب بند تشكيل الحكومة، التي تمثل الآلية التنفيذية اللازمة لتنفيذ مهمة إجراء الانتخابات الشاملة، المجلس الوطني والتشريعي والرئاسية، إضافة إلى مهمات توحيد المؤسسات الوظيفية والمصالحة المجتمعية، وتجنيد الأموال لإعادة الإعمار، فضاعت الفرصة لفترة طويلة قادمة. وانضم إعلان الجزائر إلى أرشيف اتفاقيات المصالحة.
وبنظري ستبقى المشكلة الأساسية التي تحول دائماً دون وصول الاتفاقيات الموقعة إلى نهايات سعيدة، طالما بقيت صيغة الحوار على الشاكلة التي تتم فيها، متمثلة في طرفَين متناحرَين يشكلان القوة الرئيسة في الشارع وبينهما عدة فصائل مستقطبة بتباين هنا وهناك، وهذه التركيبة لن تفضي بالنتيجة إلى نتائج حاسمة لا ماضياً ولا حاضراً ولا مستقبلاً، الأمر الذي يتطلب البحث عن صيغ بديلة أوسع من حيث التشكيل والمشاركة والتمثيل تتجاوز واقعياً الصيغة القائمة باعتبارها صيغة مأزومة. ولا أزعم أنه توجد لديَّ صيغة جاهزة للنقاش الآن لتقديمها كبديل، ولكن إذا ما توافقت الأطراف الوطنية والمجتمعية على إنتاج صيغة بديلة موسعة تعكس مختلف ألوان الطيف السياسي والثقافي والمجتمعي لن تعجز عن إيجادها، وبما يشبه إعادة صياغة للحركة الوطنية في ظل المتغيرات الداخلية والخارجية، أما أن يبقى الحوار أسيراً لقوى ساهمت في الانقسام، فمن الصعوبة بمكان تحقيق أي إنجازات أو اختراقات حقيقية في مشروع المصالحة، وإن الفشل المسجل طيلة السنوات السابقة التي لا تقل عن اثنتي عشرة سنة سيتكرر.
وعلينا الإقرار بأن توسيع نطاق وأطراف الحوار ليس بالأمر الهين، ولن يتحقق بالسهولة والمنطق الذي يطرح به، وهو ما يتطلب الاستعداد الجدي لتوليد منهجية ضغط جديدة من قبل الأكثرية الصامتة، وفي مقدمتها قوى المجتمع المدني بجميع اختصاصاتها، والتي تمثل اختصاصات وقطاعات جماهيرية وازنة ومعنية، ولا بد من تحريك الشارع للمطالبة بتمثيل أوسع وأشمل في الحوار من أجل تصويبه وضمان تمثيله للمجتمع، فلم يعد من المستساغ احتكار الحوار من قبل القوى السياسية المستقطبة إجمالاً، وما الحكمة من تمثيل أربعة عشر فصيلاً في الحوار يمثلون خمسة اتجاهات سياسية تقريباً، بينما تحرم القوى المجتمعية المستقلة من الحوار؟
أختم بالقول: إن على طرفَي الانقسام بشكل خاص، وعموم الفصائل بشكل عام، الإدراك أن استمرار مسلسل الاتفاقات، وأخذ الصور التذكارية، والابتسامات أمام الكاميرات، لم يعد مقبولاً من غالبية الشارع الفلسطيني، خصوصاً أن الشعب الفلسطيني وبسبب هذا الانقسام بات يواجه خطراً وجودياً بسبب تصاعد الهجمة الاحتلالية العنصرية بكل مسمياتها، وبالتالي فإن لسان حال الناس والشارع والرأي العام بات يلهج بالقول: من لم تكن أولوياته أولويات الشارع، والمشروع الوطني عموماً، فعليه النأي بالذات والمجاهرة أن خياره لا ينسجم وخيار الشعب الذي يعتبر الوحدة الوطنية القائمة على أساس الثوابت الوطنية والتعددية السياسية أساساً لانتصاره وتحقيق أهدافه، التي دفع ثمنها باهظاً من معاناة ما زالت فصولها تتوالى. نعم، الشعب الفلسطيني لم ييأس، ولن يتعب من مقارعة الاحتلال حتى لو امتدت المواجهة مئات السنين، لكنه بدأ بالتململ؛ لأنه تعب من الانقسام واتفاقياته التي لم توصله إلى مراده، بل إنه بعد كل اتفاقية فاشلة يزداد عمق الخلاف والهوة.
وأخيراً، إن على موقّعي إعلان الجزائر التفكير جيداً بأن الشعب الفلسطيني بأسره يتوحد مركزاً نظره نحو القدس ومحيطها، وعلى نابلس وجنين وجميع بؤر المقاومة، التي انطلقت للدفاع عن أرضها وكرامتها لمواجهة جيش الاحتلال والمستوطنين المنفلتين، ويطالبكم بالارتقاء لمستوى تضحياته ووحدته الميدانية ضد الاحتلال دون انتظار اتفاقيات تذهب إلى الأرشيف.