الغيرة والذعر، بين دوافع الحرب..!!
تنتمي الحرب العراقية ـ الإيرانية (1980-1988) إلى سلسلة أحداث وقعت للرد على الثورة الإيرانية، وكان لها، شأن غيرها، تداعيات أسهمت في تشكيل ما وقع في العالم العربي، والشرق الأوسط، على مدار عقود لاحقة، وحتى يوم الناس هذا.
تفصلنا أربعة عقود عن الحرب المعنية. وهي فترة كافية للكلام عن حقائق معيّنة بقدر أكبر من اليقين، وللقول بقدر من الثقة، أيضاً، إن من المستحيل فهم ما وقع في العراق، وله (والعالم العربي، والشرق الأوسط) في عقود لاحقة دون العودة بأثر رجعي إلى تلك الحرب. ورغم أن في وسع المعنيين الاطلاع على قوائم طويلة من الدراسات والوثائق والشهادات، ناهيك عن المادة الإخبارية الكتابية والمصوّرة، التي رافقتها، ووثقتها، وعقّبت عليها، إلا أن السجال لن يتوقف في وقت قريب بشأن تأويلاتها السياسية، والأيديولوجية.
وقد لاحظت، دائماً، أن تفصيلاً صغيراً يكاد يكون غائباً، بصورة محيّرة، في الكتابات المعنية بتحليل دوافع ومبررات الحرب. فثمة الكثير من الكلام عن "خوف" النظام البعثي الصدّامي من انقلاب مواطنيه "الشيعة" عليه بتأثير من الثورة الإيرانية، والكثير من الكلام عن خوف المحافظين، خاصة في ممالك النفط، الذين حرّضوا الدكتاتور العراقي على شن الحرب، من الثورة وتداعياتها.
وثمة، أيضاً، تحليلات ذهبت بدوافع الحرب إلى رغبة النظام الصدّامي في استغلال ضعف القوّة العسكرية الإيرانية، بعد سقوط الشاه، وإعدام القيادات العليا لجيشه، وفوضى ما بعد الثورة، لحسم نزاعات حدودية مستعصية. ويُضاف إلى ما تقدّم رغبة الأميركيين في "كبح" جماح القوّة الإيرانية من ناحية، واستنزاف القوّة العراقية الصاعدة، بعد تأميم النفط، من ناحية ثانية.
هذه، وما يدخل في حكمها، دوافع منطقية، ويمكن العثور على شواهد مختلفة للتدليل على صحتها. ومع ذلك، لا نعثر على دافع بعينه في قائمة للدوافع قد تطول أو تقصر، على الرغم من أهميته، وضرورته، أعني غيرة النظام البعثي الصدّامي مما وقع في إيران، لأن ما وقع كان ثورة، فعلاً، بألف ولام تعريف كبيرتين.
لن يكون هذا الأمر مفهوماً دون التفكير في مركزية فكرة "الثورة" بوصفها لغة واستيهامات وسياسات، في خطاب البعث، تسمعها في الإذاعة، وتقرأها في الجريدة، وتراها على شاشة التلفزيون، وتطل عليك من لافتات الشوارع. مع ملاحظة أن "ثورة" البعث كانت وهمية وكاذبة. فعلى الرغم من مركزية "الجماهير" و"الأمة"، و"الحزب القائد"، إلا أن "القائد الضرورة"، وحزبه، لم يصلا إلى سدة الحكم عن طريق الانتخابات، أو سواعد الجماهير، بل على ظهر دبابة. لم تكن "ثورة" البعث مرشحة للبقاء يوماً واحداً دون حماية الوهم بحراب السلطة.
وقد شاءت جملة مصادفات أن أرى تجليات الوهم عن كثب، في العاصمة العراقية، منذ اندلاع الثورة الإيرانية في مطلع 1978، وما لاحظته، آنذاك، من خلال نقاشات طويلة مع بعثيين في مراتب مختلفة، أن ثمة ما يشبه الحيرة الإدراكية، فلا يمكن للبعثي الصدامي أن يرفض فكرة الثورة من حيث المبدأ (وهي سر وجوده!!)، ولا وقوعها ضد الشاه، الذي كان حليفاً تقليدياً للأميركيين والإسرائيليين.
ومع ذلك، في إضفاء صفة الثورة على مشهد الحشود في مدن إيرانية مختلفة (ولم تكن الثورة قد انتصرت بعد) ما يعني اعترافاً ضمنياً بوجود ثورات من نوع آخر، أقرب إلى الفكرة "الأصلية" للثورة في المخيال العام من الانقلاب البعثي، والحقل الرمزي للاستيهامات الثورية في خطاب الرفيق المناضل صدّام حسين، "نائب رئيس مجلس قيادة الثورة".
لا تحتل "الغيرة" مكانة يعتد بها، ولا تعتبر مفهوماً مقبولاً في علوم السياسة. ويمكن، في الواقع، العثور في جذر مسألة "الغيرة" على روافع ودوافع طبقية، وسياسية، تُسهم في تفسيرها بطريقة مادية تماماً، وعلى اعتبار أن تجلياتها المحتملة مجرد أقنعة لشيء آخر، أكثر مادية وملموسية، في حقل السلطة. ومع ذلك، لا ينبغي التقليل من ضرورة، ولا أهمية الرمزي في الحقل السياسي، والمخيال الاجتماعي، لأنظمة الحكم المُطلق.
فالكلام عن "الشعب" و"الثورة" و("الشهداء"، على طريقة حافظ الأسد) يعني الإقرار، ضمنياً، بوجود مُطلقات ومفاهيم فوق التاريخ (المشكلة هيغلية في الجوهر، ولكن من قال لك إن الفلسفة المثالية تشغل بال الرفيق جاسم، في شعبة الكرّادة في بغداد، أو في المكتب الحزبي لوزارة الإعلام، أكثر من كتابة التقارير عن أعداء الحزب والثورة، مثلاً). وإذا صارت "الجماهير" و"الثورة" و"الأمة" كينونات مُطلقة، عابرة للتاريخ وفوقه، تنطوي على أسرار يقتصر إدراكها على الضالعين في تمثيلها، يصير العثور على، وابتكار، مجازات أدبية رخيصة وتوليفها في شعارات من نوع "القائد الضرورة" تحصيلاً للحاصل.
على أي حال، ما يصدق على الحالة الصدّامية (والأسدية) يصدق، أيضاً، على ثيوقراطيات قبلية مُطلقة، وشبه مُطلقة، على أطراف المراكز الحضرية للعالم العربي، ولكن مع تعديلات لا مفر منها للمفاهيم، ودلالتها الرمزية، فالثورة هي: "الفتنة"، والجماهير هي: "الرعية"، والأمة هي: "الإسلامية"، والقائد هو: "ولي الأمر".
لذا، ومع الاعتراف بالدوافع التي حرّضت النظام الصدامي على شن حرب عدوانية، باهظة الثمن، وعبثية (كما سيتضح من نتائجها)، وغير مبررة لأنها وضعت العراق على سكة الخراب، ينبغي الاعتراف بمكان ومكانة ضروريين على قائمة دوافع ومبررات الحرب العراقية ـ الإيرانية، لغيرة النظام الصدّامي من ثورة حقيقية (من سوء الحظ أن وقوعها في قبضة الملالي جعلها مخيّبة للآمال)، وذعر مُحرضيه ومموليه في ثيوقراطيات قبلية مطلقة، وشبه مطلقة، مما أطلقت الثورة من رموز طازجة، كالهواء النقي: مُنعشة، مُحرجة، مُضادة، ومزعزعة، في ليل بهيم.