حول الاونكتاد وعُدّي وكلفة الاحتلال
في مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية
" الاونكتاد" الذي انعقد خلال الأيام الماضية في جنيف، والذي استعرض معطيات وأرقام حول مدى استفادة الاحتلال الاستعماري من استمرار سيطرته على ارضنا ومقدراتنا. الأرقام التي جاءت بتقرير " الاونكتاد" لم تكن مفاجئة لأحد منا وبشكل خاص فيما اشارت له حول خسارة فلسطين نحو 50 مليار دولار بسبب إجراءات الاحتلال بين عامي 2000-2020، إضافة إلى اشارة التقرير إلى أن الاستيطان الاستعماري يُدِر 41 مليار دولار سنويا على إسرائيل، وهو مبلغ يفوق بكثير المساعدات الاقتصادية الأمريكية لإسرائيل التي تصل إلى حوالي 1.5 مليار دولار سنويا عدا عن المساعدات في مجالات أخرى ومن أهمها العسكرية.
ان اقتصاد دولة الاحتلال واحد من اقتصاديات العالم الذي مر بمراحل بسيطة جدًّا لنشأته وتطوره، فأخذ يصعد للأعلى بمساعدة دول العالم الغربي له والجاليات اليهودية حول العالم، فضلاً عن فصول الاستغلال الاستعماري الناتج عن استمرار الاحتلال الاستيطاني وما تبع ذلك من إلحاق قصري للاقتصاد الفلسطيني، الذي وضعت كل العراقيل في وجه تنميته بكل الاشكال المعروفة.
ما كان هاما في هذا المؤتمر هو ما صرح به رئيس الوزراء الأخ د.محمد اشتيه أمام الحضور، "بأن الاحتلال للأراضي الفلسطينية مربح لإسرائيل، ومن أجل إنهائه يجب جعله احتلالاً مكلفاً عبر عقوبات على الاستيطان ومنتجاته"، ودعوته للمجتمعين "إلى العمل على توزيع مخرجات التقرير على أوسع نطاق وإرساله إلى المحكمة الجنائية الدولية كوثيقة ضد إسرائيل".
ان الاحتلال الإسرائيلي القائم منذ عام 1967، لم يتخذ شكل الاحتلال العسكري المؤقت الذي ساد في بعض الدول نتيجة حروب عسكرية، وانما امتدادا لقيام دولة إسرائيل عام 1947 كمشروع استعماري استيطاني يقوم على أساس الاحلال السكاني وطرد ابناء شعبنا اصحاب الأرض الأصليين من خلال ما مارسته من جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب منذ نكبة شعبنا الفلسطيني التي تشكل واحدة من ابشع جرائم التطهير العرقي بالعصر الحديث.
تلك الجرائم التي استمرت بتصاعد واشكال مختلفة دون حسيب أو رقيب من المجتمع الدولي العاجز عن معاقبتها، فتمادت في سياساتها الاستعمارية التي ارتكزت على مسألة الاستفادة من الوقت والتنكر للاتفاقيات رغم اجحاف بعضها بحق ثوابت شعبنا وعلى راسها الحق بتقرير المصير، من خلال توسيع الاستيطان وضم المناطق السكانية وتقسيمها بقع جغرافية مختلفة في كانتونات محصورة وإطباق السيطرة على المناطق المصنفة ج التي أصبحت تضم مستوطنين باتوا يشكلون اكثر من 23% من سكان أرض دولة فلسطين المحتلة، كما ومنعت ليس فقط التنمية الاقتصادية فيها بل واية مشاريع بالقطاعات الانتاجية المختلفة، الأمر الذي يؤكد بان التنمية الاقتصادية لن تتحقق لنا في ظل وجود الاحتلال.
ان مسألة جعل الاحتلال مكلفا يجب أن يأخذ اشكالا مختلفة وتطبيقات عملية واضحة الى جانب دعوة المجتمع الدولي لفرض عقوبات على الاستيطان ومنتجاته، بل ويجب ان يتعدى هذا المفهوم، بدعوة المجتمع الدولي اليوم لفرض العقوبات على إسرائيل كدولة ابرتهايد واحتلال استيطاني وفق قواعد النظام الأساسي لهيئة الأمم والقانون الدولي واشعار العالم بعدم وجود اية عملية سياسية نظرا لانتهاكات وتنصل دولة الاحتلال منها اساسا، والتحلل بالاساس من الاتفاقيات التي لم تصل بنا إلى إنهاء الاحتلال وإقامة الدولة، كما والاسراع والبدء العملي بتنفيذ قرارات المجلس المركزي في دوراته الاخيرة وما صرح به الاخ الرئيس ابو مازن من وجوب تحديد طبيعة العلاقة المفترضة مع اسرائيل وفق معادلة بين احتلال وشعب تحت الاحتلال.
لم ينتهي اي احتلال بالعالم دون مقاومة مختلفة الاشكال والانماط استندت إلى ما اقرته التشريعات الدولية للشعوب التي تناضل من أجل إنهاء احتلالها واستعمارها، والى كرامة الشعوب ووحدتها وحقها بالسيادة على اراضيها.
فإلى جانب العمل السياسي والدبلوماسي على كافة الساحات وبالمحافل الإقليمية والدولية الذي يجب ان يستند إلى خطاب مقاومة ورفض الاحتلال والعمل على انهائه اولا ومقاطعة الدولة القائمة عليه، وهو ما يشكل احد ركائز حقوق الشعوب الطبيعية والمشروعة، يتوجب الاعتراض ايضا على قيام بعض الدول بتطوير علاقاتها مع اسرائيل كدولة تنفذ مشروع استعماري توسعي على حساب حقوق شعبنا الفلسطيني وتهدد السلم العالمي.
إن ما يحدث الان في كافة المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية من تصاعد لمفهوم المقاومة الشعبية والتي اقرتها الشعوب الأوروبية لنفسها زمن مقاومة الاحتلال النازي، يشكل احد اهم المحددات لجعل هذا الاحتلال اكثر كلفةً.
ان ما يجري هو تراكم لموجات المواجهة والمقاومة ضد هذا الاحتلال الاستعماري منذ بدايات الكفاح الوطني بقيادة منظمة التحرير وما قبل ذلك زمن الانتداب، وهو الظاهرة الطبيعية لعدم جواز وجود احتلال مجاني أو مظاهر تتعلق بالتعايش مع هذا الاحتلال تحت مسميات مختلفة.
وبغض النظر عن ضرورات تقيم تجاربنا من أجل وضوح اكثر لرؤية دحر الاحتلال نحو التحرر والاستقلال الوطني خاصة في ظل هذه المتغيرات الدولية الجارية وما يعانيه الغرب من ازمات ومع اقتراب موسم الانتخابات الأمريكية والاسرائيلية في الشهر القادم في ظل تنامي ازماتهم الداخلية، الا انه أصبح من الواضح أن ما يجري من مقاومة شعبية مختلفة الاشكال أصبح يشكل ارباكا اضافيا للمستويات الإسرائيلية الأمنية والسياسية خاصة مع وضوح عدم إمكانية خضوع الجيل الشاب الجديد لمنهج استدامة الاحتلال والقهر والاستيطان، وهو جيل لم يرتبط بعد بحكم عمره مثل جيلنا باستحقاقات قروض بنكية أو غيرها ولا يزال دون ارتباط بالنواة الأسرية ومسوؤلياتها، فبات جيل مشتبك بما يذكرنا بجيلنا خلال الانتفاضة الكبرى وما قبلها من مراحل النضال، وبات غير مقتنع ربما ببعض من بجوانب الخطاب السياسي الذي بات غير مقنع بالنسبة لهؤلاء الفتية الذين يعانون الفقر والبطالة والمقاتلين من مسافة الصفر ضد جنود ومستوطنين الاحتلال على الحواجز وأبواب المستوطنات، وهم يحظون اليوم بتفاعل شعبي كما حدث قبل أيام مع الفدائي الشهيد عدي وكافة الشهداء المشتبكين الآخرين، عدي الذي قاتل حتى الرمق الأخير فبات أيقونة للشباب، يتوجب تفاعل المواقف السياسية الرسمية معه كنموذج للكفاح والتضحية وهو الذي ارتقى لينضم إلى قافلة المئة الف شهيد.
تلك هي احدى اشكال دفع المجتمع الإسرائيلي نحو التفكير بكلفة الاحتلال، بتكامل هذا الدور من أشكال المقاومة مع ما أشرت له في بداية المقال إلى جانب ضرورة الانتقال أيضا إلى تنفيذ اشكال ومفاهيم اقتصاد التقشف المقاوم والمنتج صناعيا وزراعيا حتى نمارس الانفكاك الاقتصادي ولو تدريجيا لكن جديا.
هذا إلى جانب البعد القانوني المقاوم في تجسيد مفهوم الدولة المستقلة من خلال القرارات الاممية المنددة بدولة الاحتلال وتفعيل الشكاوي بشكل عاجل أمام محكمة العدل ومحكمة الجنايات الدولية وفق التقرير الصادر امس للجنة التحقيق الدولية التابعة للأمم المتحدة لبداية الشروع بمحاكمة مجرمي الحرب كما حدث بالتاريخ من خلال محاكم نورمبرغ التي اقامها الاوروبين انفسهم لمجرمي الحرب النازيين وتحمل المجتمع الدولي مسوؤلياته القانونية نحو إنهاء الاحتلال.
إن عُدي وكما من سبقه من الشهداء، لم يدعو ابناء جيله في وصيته للشهادة، وانما إلى فعل المقاومة كنمط حياة لانهاء هذا الاحتلال حتى ينعمون بحياة، وحتى يدرك اصحاب الاحتلال والعالم، أن شعبا يضطهد شعبا اخر لا يمكن أن يكون هو نفسه حرا.