الهيمنة الأمريكية وتفاقم الأزمات الأوروبية وتأثيرها على المتغيرات الدولية الجارية
مقالات

الهيمنة الأمريكية وتفاقم الأزمات الأوروبية وتأثيرها على المتغيرات الدولية الجارية

وسط ظروف دولية صعبة في ظل احتدام الحروب والصراعات ، وفي خضم تفاقم أزمة الرأسمالية العالمية ونظام اقتصادها النيوليبرالي المتوحش ، وتورط الادارة الاميركية ومعها حلف الناتو في استمرار الحرب ضد روسيا من خلال ازمة اوكرانيا ، ووسط تفاقم أزمة الغذاء والطاقة، وازدياد تدخلات الهيمنة الاميركية في شؤون العالم بما فيها التدخل في الشأن الصيني الداخلي عبر تايوان.

في خضم ذلك يسجل الفقر والبطالة والجوع كل يوم ارقاماً قياسية مخيفة لم تعد تُمكن العيش ولو بالحدود الدنيا بما في ذلك بالدول الأوروبية ، فهل تنعطف هذه القارة الي طريق تتخلص فيها من الهيمنة الأمريكية وهي تدفع فاتورة تبعيتها الآن .

وبالرغم من حدة التنافس الجارية الان بالانتخابات النصفية لمجلسي النواب والشيوخ بالولايات المتحدة والتي تعكس انقسام المجتمع الامريكي وتفاقم ازماته باوجهها المختلفة ، الا ان بعض الأوروبين اعتقد سابقا ان وصول بايدن وحزبه الى البيت الابيض قد يغير من سياسات الولايات  المتحدة تجاه اوروربا ، وخاصة منها الاطماع الأمريكية المتعلقة بمنطقة اوراسيا المحاذية للحدود الروسية والتي كان قد تحدث عنها مفصلا مستشار الأمن القومي بريجنسكي قبل عقدين من الزمن . لكن يبدو ان هولاء الاوروبين لم يدركوا او لا يريدون الادراك بحكم مصالح البعض منهم ، انه عندما يتعلق الأمر بالسياسة الخارجية للولايات المتحدة ، فإن تبدل الحكومة في واشنطن لا يعني تغيراً كبيراً في الاستراتيجية الأساسية التي ترسمها الدولة العميقة ومراكز مجمعات الصناعات العسكرية والمالية ولكنها تقتصر في الخطاب السائد فقط أو ببعض السياسات الداخلية . 

 

الان قوى المعارضة اليسارية والتقدمية والحركات الاجتماعية والنقابات العمالية بأوروبا  تقود اضرابات ومظاهرات شعبية ضخمة في بريطانيا ، فرنسا ، ايطاليا ، بلجيكا، اسبانيا ، رومانيا ، جمهورية التشيك ، اليونان ، ألمانيا وغيرها من أجل لقمة العيش وضد إرسال الأسلحة إلى أوكرانيا والتورط بالحرب فيها .

تضخم غير مسبوق ، غلاء معيشة ، تدني الرواتب ، انحسار امدادات الغاز ، اقتراب شتاء قاسي تُمثل تداعيات تورط حكومات دول اوروبا بخطط الناتو  بقيادة الولايات المتحدة ، ما سيدفع الى عدم الاستقرار بواقع وبمستقبل الاتحاد الأوروبي ، الأمر الذي يشكل جزء من المتغيرات الدولية الجارية الآن باتحاه انتهاء النظام الدولي احادي القطب .

لقد بلغت نسبة ارتفاع غلاء المعيشة ارقام عالية خلال الأشهر الماضية بأوروبا وارتفعت إعداد العاطلين عن العمل بشكل كبير ، كما ارتفعت اسعار السلع والخدمات بالوقت الذي انخفض به دخل الفرد ، وسجل ميزان الحساب الجاري في منطقة اليورو عجزا كبيرا ، كما أن هنالك الآن تراجعا ملحوظا بالاستهلاك وتدني واضح لاشكال الرفاهية التي اعتاد عليها سابقا الاوروبين . 

لقد أصبح المواطن الأوروبي مدركا اليوم بأن حكوماته غير قادرة على حل كل تلك الاشكالات القائمة والمتفاقمة وانها فقدت القدرة على دعم العديد من السلع ومنها الطاقة وهي لا تمتلك اليوم الامكانيات لذلك .

والى جانب دول الاتحاد الأوروبي ، فقد سجلت بريطانيا على أثر خروجها "البريكسيت"  من الاتحاد الأوروبي  ، ركودا اقتصاديا هو الأكبر منذ مئة عام ومعدلات تضخم عالية وانخفاض الفائدة والقدرة الشرائية  ، إلى جانب الازمة السياسية الداخلية غير المنتهية وتبدل رئيس الوزراء لثلاث مرات خلال الفترة القصيرة الماضية . هذا بالإضافة إلى الازمة والصراع الذي يعصف بحزب المحافظين وإمكانية خسارته الانتخابات القادمة أمام حزب العمال الذي يطالب بانتخابات مبكرة . يضاف إلى ذلك المشاكل المرتبطة بقضايا أيرلندا الشمالية وسكوتلندا والتي باتت تهدد مستقبل وحدة المملكة المتحدة "بريطانيا" ، ما يعكس أيضا عمق ازمة النيوليبرالية المتوحشة التي ساهمت في اطلاقها رئيسة وزراء بريطانيا السابقة تاتشر .

كل ذلك أصبح اليوم ينعكس على السياسات الاقتصادية الأوروبية بعد الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي  ، حتى أصبحت بريطانيا اليوم المَثل لما تعانيه أوروبا بحكم ازماتها المتلاحقة ، وباتت نظرية حل مشاكلها وازماتها  عن طريق الخروج من الاتحاد الأوروبي وهماً لا يتحقق .

يضاف إلى ذلك الخلافات المتصاعدة بين الدول الأعضاء بالاتحاد الاوروبي خاصة مع وجود التباين الألماني الفرنسي والذي لم ينجح اللقاء الأوروبي المنعقد مؤخرا بدعوة من الرئيس الفرنسي ماكرون الذي يواجه صعود اليسار الجديد في بلاده ، من إيجاد حلول له أو ايجاد توافق حول قضايا عديدة من ضمنها مسألة العقوبات على روسيا التي تترك تداعيات مباشرة على المواطن الأوروبي من خلال ازمة الغاز والطاقة المتفاقمة وارتفاع اسعار الطاقة في بعض الدول بنسبة ٦٧% على أبواب الشتاء أمام الإطماع الأمريكية في تزويدهم بالغاز وبأسعار عالية وفتح اسواقهم لامدادات الغاز الإسرائيلي خاصة بعد نجاح الولايات المتحدة في فرض اتفاق ترسيم الحدود المائية بين دولة الاحتلال ولبنان من جهة والاتفاق مع مصر من جهة اخرى حول الغاز .

 ولذلك هنالك اليوم اصوات أوروبية بدات تشير إلى ازدواجية معايير الولايات المتحدة في شأن التعاطي مع "مبداء مونرو" الامريكي نفسه الذي يستدعي 

 كثيرا من المقارنات بين السياسة الأمريكية التي تسمح التعامل مع محيطها الإقليمي والسياسة الروسية في التعامل مع الملف ذاته ومعارضة أمريكيا لذلك .

 كما وأصبحت هذه الأصوات تشير الى مخاطر تلك العقوبات على روسيا وأثرها على علاقات دولهم معها ، كما وتطالب برؤية جديدة للعلاقات مع الولايات المتحدة التي يتهمها بعض الاوروبين باستغلال الحرب التي اشعلتها باوكرانيا وسارعت بايجاد خلافات تجارية أوروبية أمريكية. 

ان الولايات المتحدة ما زالت ترغب في أن يدفع الأوروبين لها دين خطة مارشال والحرب العالمية الثانية تحت ادعاء انها من حررت أوروبا من الوحش النازي وتمارس هيمنتها وفق ذلك ، بالاغفال المتعمد لدور الاتحاد السوفيتي السابق والجيش الأحمر في تحرير أوروبا وتقديم ٣٠ مليون ضحية في سبيل ذلك إضافة إلى ما تحملته شعوبه من خسائر مادية واقتصادية ، بوقت لم يتأثر الاقتصاد الأمريكي البعيد عبر الأطلسي حينها .

وهي تفرض ذلك أيضا عبر تواجد الناتو على الأراضي الاوروبية الذي ترسم سياساته وحركاته الولايات المتحدة نفسها ، وفي تقديم أوروبا حطباُ لاشعال معركتهم ضد روسيا التي تديرها بالوكالة وبخسائر أوروبية. 

ان كل ذلك بات الآن يهدد مستقبل ووحدة الاتحاد الأوروبي واستمرار وجوده الذي بداء بعض الزعماء الاوروبين يتحدثون عنه . 

انها ازمة الليبرالية الجديدة التي تدفع ثمنها آلان الشعوب الأوروبية وباتت تعصف باستقرار حكوماتها وتفتح بالمقابل آفاق جديدة للتغير بالنظام العالمي الاحادي القطب والعلاقات الدولية التي سيكون أثرها اكثر وضوحا بعد انخماد الحرب المشتعلة باوكرانيا التي اشعلتها الولايات المتحدة منذ تدخلها هنالك عام ٢٠١٤ ، فحينها لن تبقى أوكرانيا كما كانت ولن تبقى الهيمنة الأمريكية مطلقة في محاولاتها لاضعاف روسيا ومواجهة الصين بحربها الاقتصادية ضدها .

إن استمرار التبعية الأوروبية للقرارات والسياسات والاملاءات الأمريكية والبريطانية وخاصة الآن بما يتعلق منها بمخططات اضعاف روسيا ، سيجر أوروبا إلى حالة من زيادة الفوضى والاضطرابات ، حيث ستجد برأيي الحكومات الأوروبية نفسها مضطرة للتعاطي مع مطالب حركة شعوبها وتغير سياساتها اذا تمكنت هذه الشعوب من شل حركة الشارع والسوق والمرافق العامة ، وفق ما أعلنت عنه أحزاب المعارضة اليسارية والتقدمية والنقابات المهنية والعمالية هنالك من برامج تصعيد الاضرابات العامة ومواجهة الحكومات الاوروبية التي يحكم معظمها اليمين .

الى جانب ذلك لم يفاجئني رفع المتظاهرين الاوروبين الإعلام الفلسطينية في بعض من المظاهرات الجارية ، الأمر الذي يعكس تضامن شعوب أوروبا وقواها التقدمية واليسارية مع نضال شعبنا العادل في مناهضة الأحتلال والابرتهايد ونفاق حكومات اوروبا وازدواجية معاييرها كما والسياسات الأمريكية المتوحشة ضد الشعوب وحرياتها ، وما يشكل ذلك من امال لنا في حال المتغيرات السياسية الأوروبية ومكونات حكوماتها ، ومن معاني ربط قضايا الشعوب المختلفة وتضامنها المشترك ، ومن ضمنها شعبنا الفلسطيني بالنضال من أجل العدالة والمساواة في هذا العالم  ، علينا الاستفادة من ذلك .

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر وكالة صدى نيوز.