ظاهرة بن غفير ليست طارئة
في تطور مثير للاهتمام في انتخابات الكنيست الإسرائيلي هذا العام برز تحالف لافت تشكل من حزبين يقعان في أقصى الخارطة السياسية تطرفا وأشدها يمينية هما: حزب «الصهيونية الدينية» ويقوده بتسلئيل سموتريتش وحزب «العظمة اليهودية» ويقوده إيتمار بن غفير.
وهما يتحضران بعد الانتخابات لتسلم وزارات مهمة ما أصبح ذلك مثار اهتمام العالم.
اللافت هنا أن هذا الاتجاه الفاشي والذي اعتبر في وقت من الأوقات حالة معزولة في إسرائيل على يد مؤسسه الحاخام كهانا الذي يعتبر النموذج الأعلى لبن غفير أصبح الآن جزءا من الخارطة السياسية، حيث حصل التحالف على 14 مقعداً من أصل 120.
التحالف ليس نبتة شيطانية غريبة في المجتمع والوسط السياسي في إسرائيل، بل هو نتاج حالة يمين ينزاح لها المجتمع الإسرائيلي. فحزب الليكود تحول إلى حزب مستوطنين حيث اللجنة المركزية للحزب ضمت معظم نشطاء المجموعات التي كانت تلاحق العرب في الضفة، هذا إذا ما أضفنا الأحزاب الدينية ذات النزعة الفاشية التي تعبر عنها في وصفها للعرب لكن تحالف الصهيونية الدينية هو الظاهرة الأكثر وضوحا، واذا ما أضفنا حزب البيت اليهودي بزعامة ليبرمان بآرائه المعروفة ومشاريع القوانين التي قدمها بهدف محاصرة العرب وكذلك جدعون ساعر المنشق عن الليكود وكان ينتمي للجناح اليميني المتطرف في الحزب نكتشف أننا أمام نظام سياسي يميني متطرف يعد انعكاسا طبيعيا لجمهور ينزاح نحو اليمين وتتعزز ثقافته اليمينية.
أقيمت إسرائيل على يد الصهيونية العلمانية اليسارية إلى الدرجة التي أثارت الخوف في بدايات أربعينيات القرن الماضي لدى حزب أغودات إسرائيل الديني من خطوة بن غوريون حد الاعتراض الذي لم ينتهِ إلا برسالة تطمينات من بن غوريون.
والآن بعد عقود على إقامتها يتلاشى اليسار في إسرائيل ويتصدر اليمين مشهد السياسة والثقافة والحكم فما الذي حدث وهل هذا التحول مؤقت أم دائم ؟
يمكن تقسيم مسيرة إسرائيل إلى ثلاث مراحل متدرجة تعكس هذا الانزياح الهادئ في بنية المجتمع والدولة. فعمر إسرائيل يقترب من سبعة عقود ونصف العقد تقسم فيها المراحل كالآتالي:
• الأولى ثلاثة عقود من 1948 - 1977 حكمها اليسار العلماني بتحالفاته إلى أن فاز حزب الليكود اليميني لأول مرة العام 77 وحكم بعدها أربع سنوات.
• الثانية تشمل عقدين من مطلع الثمانينيات حتى مطلع الألفية حيث أصبح هناك ما يشبه التعادل بين اليمين واليسار لنشهد ما عرف بحكومة الرأسين في الثمانينيات.
وفي التسعينيات كان هناك ما يشبه التوازن، فاز باراك العام 99 برئاسة الحكومة فيما فازت أحزاب اليمين بأغلبية الكنيست «بقي هذا التوازن حتى فوز شارون العام 2001.
• في عقدين منذ مطلع الألفية حتى الآن يحكم اليمين إسرائيل. وفي كل انتخابات للكنيست تزداد حصة اليمين أكثر ويزداد التعبير عنها بشكل أكثر وضوحا.
وذات مرة العام 2015 كان نتنياهو يدعو اليهود للنزول للصناديق لأن «العرب يهرعون للتصويت للاستيلاء على الدولة».
السلم البياني خلال العقود السبعة ونصف الماضية يظهر هبوط اليسار الذي يمثله حزب العمل الآخذ بالتلاشي بشكل ثابت يقابله الصعود نحو اليمين وصولا لتجليات الظاهرة ببن غفير. وهو ما كان واضحا في المسار الذي حدث ويعود لأسباب تاريخية وداخلية أدت لهذا الانزياح الثابت والتي كانت تتم:
• صدمة المجتمع الإسرائيلي من حرب 73 وما بدا أنه هزيمة للجيش والتيار العلماني الذي كان يقود إسرائيل برئاسة غولدا مائير، وهذا ما أعطى قوة دفع للتيار الاستيطاني الذي يؤرخ بداية مشروع الاستيطان في منتصف السبعينيات. إذ بدأت تنمو المستوطنة ومفرخة اليمين وينحسر الكيبوتس مفرخة اليسار.
• الثقافة الإنجابية بين الطوائف اليهودية. حيث الثقافة العلمانية تأثرت بأوروبا قليلة الإنجاب فيما العائلات الدينية اليمينية هي عائلات كثيرة الأبناء.
• التشريعات التي تمكنت الأحزاب الدينية من تمريرها حين أصبحت بيضة قبان منذ الثمانينيات كانت تصب باتجاه تعزيز الكتلة الدينية اليمينية في المجتمع، مثل قانون العائلات كثيرة الأولاد وقانون الإعفاء من الجيش وقانون المعاهد الدينية.
• وجود شبكات تعليم دينية موازية لتعليم الدولة مثل شبكة «التعليم المستقل» التابعة لحزب يهدوت هتوراه وشبكة «الينبوع» التابعة لحزب شاس. وهما تعززان التعليم اليميني الديني والقومي، فقد دلت إحصائيات هذا العام على أن التعليم الحريدي يضم 260 ألف تلميذ في التعليم الابتدائي «ثلث التعليم العبري تقريباً» 55% منهم يتعلمون في هاتين الشبكتين.
• انغلاق أفق التسوية وعدم قدرة حزب العمل على استكمال مساره السياسي، وتصدع العلاقة بين الفلسطينيين والإسرائيليين باندلاع الانتفاضة ومناخاتها وإعادة تشكل المجتمع الإسرائيلي نحو التطرف والكراهية.
هناك دائرة متكاملة يمكن ملاحظتها لدى الأحزاب الدينية، «الحديث عن الأحزاب الدينية يعني تلقائيا البعد القومي لأن الدين في إسرائيل هو قومية الدولة والمجتمع «وهي أن هذا المجتمع الديني ينغلق على نفسه ويزداد فيه تفريخ الحالات الدينية المتطرفة، فهو مجتمع بثقافة إنجابية تنزع نحو عائلات كبيرة وهذا المجتمع له مؤسساته الخاصة التي تحتضن الطفل منذ الحضانة ثم المدارس الخاصة ثم المعاهد الدينية التي تعلم التوراة والتي ضمنت التشريعات تحت الابتزاز تكفل الدولة بطلاب المعاهد وعائلاتهم وكذلك بإعفائهم من التجنيد.
وبالتالي نحن أمام مجتمع آخر كان يتنامى على هامش المجتمع العلماني اليساري إلى أن ابتلعه لينتقل من الهامش للمركز ويتحول للتيار المركزي في السياسة الإسرائيلية.
ومع مزيد من الانزياح والقوة العددية التي تعطي قوة نفسية يصبح هذا التيار أكثر قدرة على التعبير عن ذاته وهو ما تشهده إسرائيل.
وإذا كانت إسرائيل تنزاح نحو اليمين الذي كان يختبئ خلف إرث الديمقراطية الإسرائيلية بشعاراته فإن مفاجأة بن غفير سموتريتش ذات الطابع الفاشي المعلن تطرح تساؤلات جديدة. وإن كانت الظاهرة هي ابنة النمو الطبيعي للمسار لكن حضورها الذي يخيف المراقبين الاسرائيليين أنفسهم على الديمقراطية من الثقافة التي يمثلها بن غفير الذي رفعت ضده 50 قضية سابقا، وسموتريتش الذي يتوعد بالانقلاب على جهاز القضاء وتحويله لأداة في خدمة السياسيين على نمط القضاء في دول العالم الثالث.
رغم الأسباب والعوامل التي أدت لانزياح المجتمع نحو هذا الاتجاه وبروز تلك الظواهر إلا أنها وجدت تعبيراتها في ثمانينيات القرن الماضي على يد كهانا مؤسس حركة كاخ العنصرية الذي وصل للكنيست بنفس الشعارات التي يعتبرها بن غفير مدرسته السياسية وزعيمها نموذجه السياسي.
ووجدت الظاهرة نفسها في حزب موليدت الذي أسسه رحبعام زئيفي وكذلك في حزب تكوما ووجدت نفسها في ممثلين ثانويين في أحزاب أخرى وبالتالي ليست طارئة فهي أصيلة في المجتمع عملت العلمانية المؤسسة على فرملتها أو تأخيرها .....ولكنها كانت أقوى من الكبح.