ما بين اعلان وثيقة الاستقلال وتحقيق الاستقلال الوطني
في ذكرى إعلان وثيقة الاستقلال نحن لا نحتفل بذكرى الاستقلال، فمن أين يأتي الاستقلال ونحن ما زلنا نتابع مسيرة كفاح حركتنا الوطنية الفلسطينية المعاصرة من أجل الوصول إلى استكمال مرحلة التحرر الوطني.
حينها، وبدحر الأحتلال الكولنيالي يكون الاستقلال الوطني قد جاز كواقع فعلي بعد الوصول الى حقوق شعبنا الغير قابلة للتصرف وعلى رأسها حق تقرير المصير.
أما إحياء هذا اليوم 15تشرين ثاني من كل عام فهو مناسبة لنتذكر ذلك اليوم الذي وقف به الشهيد الرئيس ياسر عرفات باني الهوية الوطنية المعاصرة وقائد ثورتها امام اعضاء المجلس الوطني الفلسطيني المنعقد حينها ببلد المليون شهيد، ليقراء ويعلن وثيقة استقلال دولة فلسطين بأسم الشعب العربي الفلسطيني، ولنتمسك بما جاء فيها من كلمات قد اختارها بدقة وعناية شاعرنا الراحل محمود درويش وصاغها بلغته الأدبية الشعرية المعبرة، وجَسد من خلالها الواقعية الثورية لبرنامج منظمة التحرير الفلسطينية السياسي، الذي شكل نقطة تحول هامة انذاك في فهم الواقع الدولي والعربي، ولخص بها مراحل عجز انظمة الاقليم والنظام الدولي، وتطور قضيتنا منذ نكبتنا برؤية سياسية شكلت فهماً بين الممكن وغير الممكن، بين العدالة والظلم التاريخي ، وبين الحق والهدف.
وثيقة اعلان الاستقلال جائت على اثر انتفاضة الحجارة العظيمة وتراكم مراحل الكفاح الوطني بالشتات والوطن، فقد تلتها سلسلة من الاعترافات الدولية بدولة فلسطين انذاك، ما مهد الطريق أمامنا لاحقا لمزيدا من الاختراقات الدولية لأبواب كانت مغلقة لزمن ولتمدد كبير في علاقاتنا مع الأسرة الدولية وفق التزامنا بأسس الشرعية الدولية والقانون الدولي وعلاقة ذلك بالسيادة على أرضنا واستقلالنا الوطني القائم على حقنا بدولة ذات سيادة كاملة غير منقوصة عاصمتها القدس. الأمر الذي فتح أمامنا أيضا آفاق جديدة وتحقيق قرارات أممية لاحقة لنصرة قضيتنا الوطنية ارتكزت على إدانة جرائم الأحتلال ومحاصرة إسرائيل القوة القائمة بالاحتلال بالعديد من المحافل الدولية، تلك "الدولة" إلتى ادمنت الأحتكام الى الخرافة والإرهاب في نفيها المستمر لوجود طائر العنقاء الفلسطيني الخارج من الرماد دوماً.
إن وثيقة إعلان استقلال دولة فلسطين قد استندت الى الوجود الإنساني لشعبنا في علاقته مع الأرض والتاريخ والى التراث الذي كرسته الحركة الوطنية الفلسطينية والتي تمثلت في إعجاز نصوص الوثيقة التي احيينا ذكرى إعلانها الـ34 قبل أيام وبما حظيت به من إجماع وطني فلسطيني من كافة اعضاء مجلسنا الوطني، فمثلت الدلائل لمضمون الوطن وشكل الدولة، وفي ضرورة وحق ابناء شعبنا من تطوير هويتهم الوطنية الثقافية في ظل مساواة كاملة بالحقوق وصيانة المعتقدات الدينية والسياسية والكرامة الإنسانية في ظل نظام برلماني ديمقراطي، وإلى احترام المواثيق الأممية ومنها كافة حقوق المرأة والطفل وكافة شرائح مجتمعنا الفلسطيني في إطار تعدد الثقافات والرسالات السماوية للبشر.
هذا ما يحيه شعبنا في هذه الذكرى في الخامس عشر من تشرين ثاني من كل عام، ونحن ما زلنا نكافح أشكال الاحتلال الفاشي والعنصرية الاستعمارية بدعم الولايات المتحدة راعية الإرهاب الدولي التي تعيق تجسيد هذه الوثيقة وهذا الاستقلال ، إلى جانب ما يُسقطه هذا الواقع الإقليمي والدولي الراهن حتى اللحظة على مكونات حياتنا اليومية وتفاصيلها التي نريد لها الانسجام التام مع ما صاغه الراحل محمود درويش.
وبما حملته من كنز الثقافة والانتماء للفكر الإنساني والوطني ، على أمل الاحتفال بالاستقلال الوطني الناجز بانتصار شعبنا على اعدائه وخاطفي حريته وحقوقه في إطار صراعانا معهم على الأرض والهوية،
ولهذا يوم آخر قريب.
إن ذكرى إعلان وثيقة الاستقلال يجب أن تكون حافزاً للعمل والوحدة واستمرار الكفاح الوطني العادل بروح ومضمون ما جاء فيها من نصوص ومعاني للوصول الفعلي لتجسيد المواطنة الحقيقية والديمقراطية وأسس المجتمع المدني نحو الأستقلال الوطني بدحر الأحتلال الفاشي أولاً، من خلال استكمال مرحلة التحرر الوطني بكل ما فيها من تفاصيل واستحقاقات ومتطلبات، نحو الوصول الى مقولة الرئيس المؤسس ابا عمار "وطن حُر لشعبٍ من الأحرار".
فمنذ ذلك التاريخ منذ اعلان وثيقة الاستقلال وبحكم المتغيرات الدولية والاقليمية، دخلت قضية شعبنا في تعقيدات جديدة بعد مدريد ادت الى التوقيع في أوسلو على اتفاقيات لم تحقق بعد ثلاث عقود الحد الأدنى المطلوب من الحقوق الوطنية الثابتة لشعبنا وبالمقدمة منها إنهاء الاحتلال وممارسة حقنا في تقرير المصير أسوة بكل شعوب الارض كمبداء اساس من ميثاق هيئة الأمم والقانون الدولي.
اتفاقيات اتت دون الخوض في تفاصيلها أو سلبياتها وايجابياتها الآن في هذه العجالة من المقال ، ورغم ذلك فقد افرغتها الحركة الصهيونية من اي محتوى قد يشكل نوعا من ممارسة السيادة على ارضنا أو إمكان الوصول الى سلام عادل، فابتداءت بالمرحلة الانتقالية وانتهت بأقل منها ، بل وتخلوا عنها هم كما اعلنوا مرارا.
ولأنه لا يمكن محاكمة تفاصيل الأمس من خلال ظروف اليوم ، الا ان النتيجة كانت هي ما وصلنا اليه اليوم.
واعني بما وصلنا اليه اليوم من مدى اقترابنا او ابتعادنا من الوصول الى حقوقنا السياسية والتاريخية، أو إنهاء الظلم التاريخي الذي حل بنا منذ ما قبل النكبة على أثر رؤية القوى الاستعمارية لواقع أرضنا ومكانتها ، فكانت بدعة الحركة الصهيونية التي نفذت لهم رغبتهم ومصالحها هي كجزء أصيل من مكونات الاستعمار الكولنيالي حتى اليوم وبمساندة مستمرة منهم لن تنتهي باللحظة التاريخية التي ما زلنا نعيشها في ظل سياسات الهيمنة المتوحشة لنظام القطب الأحادي، إلى حين ان يتغير هذا الواقع الدولي ويصبح الأحتلال بالنسبة لهم أكثر كلفة.
ورغم ما حققناه نحن ولو جزئياً انطلاقا مما كنا نرغب به من حماية لأنفسنا بعد المتغيرات الحاصلة انذاك، وما حاولنا الاستفادة منه ولو جزئيا في دعم مقومات صمودنا وتثبيت وجودنا على الأرض كنوع من المقاومة حتى لا تتكرر تجربة النزوح.
فقد كان بالإمكان أن يكون الأمر افضل بمعاني الصمود بقطاعات الحياة المختلفة التي ابتعدنا في بعضها عن النمط المقاوم ولم نحقق فيها التنمية الاقتصادية والاجتماعية المستدامة، الا ان معيقات الأحتلال الذي ما زال جاثما على ارضنا كما واشتراطات بعض ألمانحين التي ارتبط جزء كبير منها بالعملية السياسية كانت عائقا بعدم توفير قاعدة انتاج صناعي أو زراعي تؤهل للانفكاك عن المحتل كما نريد.
لم ينتهي الأستيطان بل ولم يتوقف وازداد توسعاً وسيزداد قريبا مع ما يجري من اتفاقيات بين اطراف تشكيل حكومتهم الجديدة برئاسة نتنياهو، وبقي اسرانا في سجون احتلالهم وزاد عددهم كما تضخم تعداد المستوطنين ليصل إلى اكثر من 750000 وأصبحت أرضنا تشبه قطعة جبن سويسرية كما وصفها الأخ الرئيس أبو مازن أمام مجلس الأمن.
لقد توهم البعض في هذا العالم بأننا نسير في خُطى ثابتة نحو السلام ، فاعادت العديد من دول العالم علاقاتها المقطوعة مع اسرائيل منذ احتلالها لما تبقى من أرضنا التاريخية عام67.
خلال العقدين الماضيين لم نعترض أمام هذه الدول على إعادة أو تطوير علاقاتها مع اسرائيل كدولة احتلال وفصل عنصري كما اعترضنا على آليات تطبيع بعض العرب، وكان البعض منا يعتقد أن تلك العلاقات قد تساهم في خدمة قضيتنا من خلال وضع الضغوطات على إسرائيل.
لكن لم يضغط احد عليهم في واقع الحال، بل وتم استثمار تلك العلاقات الناشئة بالضغط علينا نحن، فأصبحت بعض تلك الدول تنظر إلى الضحية والجلاد بنفس القدر من المسوؤلية ، فاصبحنا نحن من تقع عليه اللائمة في بعض الأحيان، كما واصبحنا مطالَبين بوقف ما اسموه بإجرائتنا الأحادية المتمثلة في حقنا بالتوجه للمحافل الدولية ومحاسبة الاحتلال عن جرائمه بالمحاكم الدولية، حتى أصبحنا نحن في أعين البعض مَن يعيق عملية السلام.
وبعيدا عن مبداء المفاوضات السياسية التي يجب أن تتم بافق واطار واضح تُفضي إلى حقوقنا كما تمت عبر تاريخ شعوب اخرى ما بين المُحتل وقيادة الشعب المحتله أرضه دون ان تتوقف مقاومته.
فمفاوضاتنا معهم كانت من طرف واحد دون مفاوض مقابل جاد، لقد اقتصرت على القضايا المرحلية وحل بعض المشاكل المعيشية، من خلال تأجيل قضايا الحل النهائي الذي هو جوهر القضية المتمثل بإنهاء الاحتلال الأستيطاني بكافة اشكاله وتثبيت حقنا بتقرير المصير وغيرها من الثوابت التي ارتكزت أيضا على القرارات الاممية إضافة إلى الحق التاريخي بها لنا، وهي الطريق الوحيد للسلام في حال وُجد بينهم من يؤمن بالسلام، وهو أمر لن يتوفر بالمدى المنظور وفق مسار تطور مجتمعهم السياسي العنصري الفاشي الذي يمثل جوهر وحقيقة الفكر الصهيوني منذ نشأة كيانهم وما قبل ذلك منذ مؤتمر حركتهم الصهيونية في بازل.
وبالرغم من توسع علاقات دولة الأحتلال بالعالم وقدرة تأثيرها لأسباب عدة وبدء استعداداتها لكي تكون جزء من هذا الشرق الأوسطي كما يُخطط لذلك من الولايات المتحدة واخواتها، الا ان الوقت بتقدري ليس متأخرا كي نعيد تقيم التجربة ونحدد الرؤية والأدوات ونؤكد على تقديم أنفسنا للأصدقاء والأعداء على حد سواء بأننا شعب ما زال يكافح حتى التخلص من الأحتلال الأستعماري نحو حريته، فنعيد رَسم العلاقة مع المُحتلين وفق قرارات وطنية سابقة لنا ونكثف من استمرارنا في تقديم المُحتل أمام العالم كنظام عنصري فاشي لا يؤمن بأشكال السلام ويسعى إلى تثبيت روايته المزعومة في أرض فلسطين التاريخية على حساب شعب اخر هو صاحب الأرض الأصلاني من خلال كل أشكال القهر اليومي التي لم تتوقف من أكثر من سبعة عقود. ولأن الصهيونية الدينية والدولة العميقة المرتبطة بها لن يسمحوا لأحد منهم ان يتقدم خطوة باتجاه اي حق من حقوقنا الا وقتلوه وكَفّروه من ديانتهم.