يوم المعلم الفلسطيني
في مثل هذه الأيام 14/12 في أوائل التسعينات، كنا نركض من مدرسة إلى أخرى لنحصر الأسماء ونحدد مواعيد الاحتفال بيوم المعلم الفلسطيني ونعد لها، حيث كنا آنذاك نواة الاتحاد العام للمعلمين الفلسطينيين، لم نكن نعرف كيف يسرقنا الوقت لكننا كنا في متعة لا توازيها متعة، نحدد القاعة وبناء عليه نقرر العدد ونرتب أمور الهدايا ونتواصل مع المؤسسات، كان همنا أن نكرم الرعيل القديم من التربويين الذين كانوا على قيد الحياة ومن توفاهم الله.
كان الواقع في تلك الفترة مختلفاً تماماً. كانت مكانة المعلم محفوظة، هيبة المدرسة حاضرة بقوة، ولا يزال للتكريم هيبته خصوصاً من مؤسسة مثل الاتحاد العام للمعلمين الفلسطينيين، الاحتفال كان يعني الكثير من مؤسسات في الوطن في ذاك الزمان، ولم تقابل الناس بعد قيادة منظمة التحرير الفلسطينية وجهاً لوجه، فكان لذلك التكريم هيبة واضحة، تماماً مثل هيبة تنظيم مهرجان انطلاقة الثورة الفلسطينية في أوائل الثمانينيات في الجامعات الفلسطينية مع فارق شاسع في المحتوى.
المشهد في تلك الأيام كان فيه إيثار لا يوصف، تخيل أن تذهب إلى مدرسة لتحدد من هنّ المكرمات منهن على أساس معايير الأقدمية والكفاءة وغيرها، فيبدأ مشهد الإيثار، «أنا نذرت نفسي لمهنة التعليم ولا أريد تكريماً بالمطلق» وتسمي لنا المعلمة أسماء معلمات أُخريات من مدرستها، ونذهب صوب أُخريات فيسعدن بالأمر ولكن المنطق ذاته هو السائد، والأروع أن يذكرنا مدرّس بشخصية تربوية أمضت عمرها في مسيرة التعليم وأهمية تكريمها.
كنا نتقن فن إدارة الحدث تيمناً بما كنا نعيش في جامعة بيرزيت، بحيث تكون الكلمات أقل والفقرات التي تعني المعلم أكثر، وفي تلك الإيام كانت حكاية التغطية الإعلامية حكاية أن تضمن طبع عدد من الصور المميزة، وتتمنى على المصور أن يفعلها سريعاً، وتأخذ الصور لتطوف على مكاتب الصحف اليومية لنشر الخبر أو ترسله عبر الفاكس، ولكن الصور يجب ان ترسل شخصياً أو من خلال المصور حسب الاتفاق مع الصحف.
قضايا المعلمين المطلبية كانت مختلفة وتحتاج إلى متابعة حثيثة منها زيادة قديمة تأخرت ويجب ان نسعى إليها، عشرة دنانير زيادة على الراتب وإدارة المدارس الصغيرة لا تلبي والبعض يزيد أقل منها، في ليلة باردة ماطرة ذهبنا صوب منزل رئيسة جميعة خيرية تدير مدرسة ثانوية برفقة أمير القدس فيصل الحسيني ليقنعها أن الدنانير العشرة الزيادة أقل صعوبة من إجراءات نقابية في المدرسة نحن في غنى عنها، وبيّن الأخذ والرد لساعة متأخرة حدث توافق على أن تدمغه بقرار الهيئة الإدارية للجمعية.
الصعوبة كانت في العام الذي انخفض فيها سعر صرف الدينار الأردني مقابل الشيكل، وبادرت عدة مؤسسات غير تعليمية إلى ربط سعر صرف الدينار لضمان حقوق عامليها، ويومها تم التواصل مع المدارس لضمان هذا التثبيت، وبعد طول نقاش ومتابعة تم ذلك وليس بسهولة.
كان للمعلم مجلة تصدر عن الاتحاد (المنوال) ونلتُ آنذاك شرف أن أكون أحد محرريها، وكان جوهرها قضايا المعلمين النقابية والقضايا التربوية المهنية التي ترفع كفاءة المعلم أمام طلابه، وفيها تحدثنا عن قصص نجاح في المدارس ودَور المدير والمعلم، كانت تجربة جميلة جداً أخذت الكثير من وقتنا، لكنها كانت بالغة الأهمية للمعلمين أولاً ولأولياء الأمور ثانياً.
وأحدثنا نقلة نوعية في عمل الاتحاد خدمة للمعلم حيث توجهنا لعقد المؤتمرات والندوات والورش، وكانت ذات عناوين مهمة بالنسبة لنا في تلك الفترة مثل (التربية الوطنية ومدارسنا) (النشاطات اللامنهجية في مدارسنا) (تحديث أساليب تعليم اللغة الانجليزية) (الوعي البيئي وأهميته في مدارسنا) وكنا نوثق هذه المؤتمرات طباعة ونعممها، وكنا نستضيف كفاءات تربوية من الجامعات ومن المدارس ومن مراكز بيئية متخصصة.
واجهنا المسألة السياسية لكننا أصررنا على أن يكون الاتحاد مهنياً جامعاً وطنياً ولا يجوز لأي كان ان يستحوذ عليه، وفي المقابل كانت هناك مراكز تربوية كان بعضها يتحسس من الاتحاد، وإن شاركنا في أي نشاط يحتد النقاش ليس في أمور تربوية ولكن سعياً لجعلنا فئويين ولم نكن كذلك.
كل عام ومعلمنا الفلسطيني بألف خير، ونحن اليوم بعيدون عن التعليم مباشرة، لكننا ما زلنا إما أولياء أمور أو أجداداً وجدات يتابعون الأحفاد، أو عمات وأعماماً يتابعون أبناء الأخ والأخت.. وتستمر الحكاية.