إسرائيل والعام الجديد!
التوقعات حول إسرائيل في العام الجديد تبدو أسهل ممّا كانت عليه في أي عام سابق، بل إن محاولة إجراء مقارنة ما بين العام الجديد لفلسطين ولدولة الاحتلال تبدو ممكنة أكثر من أي وقتٍ مضى.
التحوُّلات التي طرأت على بُنية الدولة في إسرائيل، وكذلك على نظامها السياسي، كما كانت قد طرأت قبل ذلك على بُنية المجتمع في جانبه الاقتصادي، الاجتماعي، وعلى بنيته السياسية والثقافية بصورةٍ عميقة أدّت فيما أدّت إليه حتى الآن، وستؤدي على ما يبدو "في العام الجديد" تحديداً إلى ما هو أكبر وأخطر وأعمق، وبما لا يُقاس مع كل الأعوام السابقة، بل مع كل مرحلة سابقة على الإطلاق.
لم يعد باستطاعة أحد، من داخل إسرائيل ومن خارجها إنكار هذه الحقيقة، ولم يعد باستطاعة أحد أن يتنكّر أو يتستّر، أو يُراوغ أو يُخادع حول الأبعاد التي انطوت عليها هذه التحوّلات، ولا على الطابع النوعي الجديد لا مع نهاية هذا العام، وفي العام الجديد تحديداً، وذلك بالنظر إلى أن العام الأول للحكومة اليمينية العنصرية المُغرقة في عدوانيتها، ورجعيتها وظلاميتها سيكون هو العام الذي سيتقرّر فيه ــ هذا إذا استطاعت "الصمود" لمدّة عام كامل ــ مصيرها، ومصير الواقع الإسرائيلي كله.
وبالرغم من أن هذه الآراء باتت في موضع "الإجماع" للغالبية الساحقة من القوى السياسية والاجتماعية والثقافية، الإسرائيلية، وكذلك الفلسطينية، والإقليمية والدولية، يميناً ويساراً، إعجاباً أو رفضاً وإدانةً واستنكاراً، أو كان الأمر تعبيراً عن "التبشير" أو التحذير. بالرغم من كلّ هذا "الإجماع"، إلّا أن التبعات التي ستترتّب على هذه التحوُّلات، وخصوصاً في العام "الأوّل" من عُمْر حكومة التحالف "اليميني" في إسرائيل في حُلّته الفاشية والعنصرية المُعلنة على رؤوس كل الأشهاد، وفي طابعها القومي والديني، الرجعي والظلامي لا تبدو في مثل هذا الموضع من هذا الإجماع.
فهناك من يعتقد أن دولة الاحتلال قد دخلت فعلاً إلى نفقٍ مُظلم، وأن العودة عن هذا الطريق سيكون صعبة، أو ربما مستحيلة، لأن القوى التي شقّت واختارت هذا الطريق لن تتراجع عنه مُطلقاً بالوسائل السلمية و"الديمقراطية"، وذلك لأن هذه القوى باتت لا تُقيم أيّ وزنٍ حقيقيّ لأيّ ديمقراطية من أيّ نوع، إلّا بقدر ما تمكّنها المظاهر الشكلية لهذه الديمقراطية من السير قُدُماً في هذا الطريق بالذات، وليس في أيّ طريقٍ غيره، وإلّا بقدر ما توفّره مثل هذه المظاهر الشكلية من تعزيز القبضة على الدولة والنظام والمجتمع في إسرائيل، وبقدر ما يُعزّز ويُكرّس من سيطرتها الكاملة على هذه المجالات الثلاثة.
ويرى هؤلاء من داخل إسرائيل ومن خارجها، أيضاً أن ما يزيد الطين بلّة على هذا الصعيد هو أن "الاستعداد" لاستخدام العنف من أصحاب هذا الطريق هو من الممكنات العالية الاحتمال، خصوصاً أن طابعها هو الأقرب إلى الحالة "الميليشيوية"، مع انتشار الأسلحة في أيدي أنصار وقواعد أصحاب هذا الطريق وهم غالباً من الجماعات الاستيطانية المتطرّفة والمسلّحة، هذا إضافةً إلى الفكر المتزمّت دينياً وقومياً الذي يحمله هؤلاء في حالات هي أقرب إلى "الداعشية" الفكرية والسياسية والثقافية على حدٍّ سواء.
مُقابل هذا الاعتقاد فإنّ هناك من يعتقد، من داخل إسرائيل ومن خارجها، أن طريق النفق المُظلم هذا لن يُعمِّر طويلاً، وسيتمّ إسقاطه، بل وهزيمته هزيمةً كبيرة، وقد تكون فاصلة وماحقة، وذلك لأن المجتمع في إسرائيل حتى ولو أنّ ما يقارب نصفه يساند أصحاب طريق النفق المظلم، إلّا أنّ "إدخال" إسرائيل في وضعٍ مفتوح على العنف الداخلي، وفي مظاهر هي من قبيل الحرب الأهلية، وتهديد "السلم الأهلي"، والمغامرة بتدميره لن يكون "مقبولاً" من قبل هذا "النصف" أو حتّى من غالبيته، وذلك لأن التأييد "الانتخابي" شيء، و"الاستحقاق" الاجتماعي والاقتصادي الذي يترتب على دخول المجتمع الإسرائيلي في أتُون هذه المظاهر شيء آخر.
ويرى أصحاب هذا الاعتقاد المقابل أنّ "الديمقراطية الإسرائيلية" باتت متجذّرة في الوعي السياسي والاجتماعي، وأنّ ثمّة ثقافة ديمقراطية تسود، أو ما زالت سائدة في الأوساط السياسية والاجتماعية، وكذلك في الأوساط الثقافية والأكاديمية، بل وما زالت سائدة في أوساط ليست قليلة داخل مؤسسات الجيش والأمن نفسه.
ويُتابع هؤلاء وُجهة نظرهم بالتأكيد على تماسك الدولة وقوّتها، والتماسك النسبي في مؤسّسات الجيش والأمن سيحولان حتماً دون قدرة التحالف "اليميني القومي الحريدي" الجديد على "جرّ" الدولة والنظام السياسي والمجتمع إلى طريق العنف أو الاحتراب الداخلي، وأن مؤسّسات المجتمع المدني والتي تتّصف ــ حسب رأيهم ــ بدرجةٍ عالية من الديناميكية السياسية، وبدرجةٍ عالية من الاستعداد والجاهزية ستعمل على التصدّي لهذا التحالف الجديد وإسقاطه.
وبطبيعة الحال، يؤكّد أصحاب وُجهة النظر هذه أن المجتمع الدولي في صورة وهيئة المجتمع المدني على الصعيد العالمي، وحتى في الصورة "الرسمية" لهذا المجتمع سيُحاصرون هذا التحالف، بل وسيعزلونه وسينبذونه، وصولاً إلى تعريضه للعقاب، والمساءلة القانونية أمام مؤسّسات القانون الدولي، وسيكونون عاملاً قوياً ومُسانداً رئيساً في الإطاحة به.
هذان الرأيان حول وُجهة التحوّلات الإسرائيلية من زاوية المسار "التاريخي" الجديد يُكثّفان الحالة الإسرائيلية في المرحلة الجديدة، وفي العام الجديد، لكنهما لا يُغطّيان كامل المشهد.
لن يكون المشهد الإسرائيلي بهذا الوضع، ولا بهذه الدرجة من الانقسام بين الأسود والأبيض، وستتداخل "المعارك" بين الانتماء والقناعات السياسية والفكرية من جهةٍ وبين المصالح من جهةٍ أخرى، والمشهد كلّه سيظلّ برسمِ تصدّي الشعب الفلسطيني لهجوم التحالف الجديد في كل بُقعةٍ من الأرض الفلسطينية المحتلة، والأشكال التي سيلجأ إليها الشعب الفلسطيني في مواجهته لهذا الهجوم المرتقب ستضفي الكثير من عناصر خلط الأوراق واختلاطها، كما أن الوتائر وحجم التصدّي الدولي للتحالف الجديد ستلعب دوراً كبيراً، وقد يُصبح حاسماً في تقرير مصير هذا التحالف، هذا إضافةً إلى أن الأشكال والوتائر التي سيلجأ إليها أصحاب هذا النهج المدمّر في عدوانيتهم وعنصريتهم، وعنفهم ستلعب هي، أيضاً، دوراً خاصاً، وقد يكون بالغ الخطورة على كامل هذه التحوّلات وتبعاتها وتداعياتها.
الخُلاصة هنا هو أن إسرائيل، الدولة الاحتلالية والعنصرية، دولة الممارسات الفاشية، ودولة التطرُّف الديني والقومي ستجد نفسها عند درجة معيّنة في مواجهةٍ غير مسبوقة من عالم بكامله على الصعيد الشعبي، ومن مؤسسات بكاملها، قانونية وحقوقية وسياسية، ثقافية وأكاديمية، إسرائيلية، وعربية وإقليمية ودولية، ومن دولٍ كثيرة في هذا العالم، وقبل كلّ شيءٍ من شعب فلسطيني، في الأرض المحتلة وفي الداخل الفلسطيني، وفي كلّ الشتات، على كامل الجاهزية والاستعداد لخوض معركة فاصلة مع هذا التحالف العنصري المدجّج بأيديولوجية رجعية، تجاوزها الزمن، وأصبحت في عداد عالم التخلُّف عن مسار التطوّر التاريخي الإنساني كلّه.
لو كان العامل الذاتي الفلسطيني والعربي متماسكاً، مُوحَّداً، وجاهزاً بالكامل لهذه المعركة الفاصلة لما تردّدت في وصفها بالمعركة الأخيرة في سطوةِ وجبروتِ ووجودِ وبقاءِ هذه الدولة.
مُفارقة مُحزنة أن تصل إسرائيل إلى هذه الدرجة من أزمة تحوّلاتها، وهي أزمة في تحوّلات المشروع الصهيوني برمته، والحالة العربية عموما، والحالة الفلسطينية على وجه الخُصوص والتحديد على هذه الدرجة من الضعف والهشاشة والهوان.
ليست مُحزنة فقط وإنّما مُفارقة على أعلى درجات الخطورة. وبالمقابل فإن الأجيال الفلسطينية الجديدة والعربية، أيضاً، لسوء حظ المشروع الصهيوني قد تجاوزت في داخلها كل هذا الضعف، وهي تتأهّب وتتوثب لمواجهة تاريخية مع هذا المشروع المتناقض كلياً مع مسار التطوّر التاريخي في هذه المنطقة، وفي العالم كله.