عام جديد من شعلة الأنطلاقة بين التحديات والفرص
مقالات

عام جديد من شعلة الأنطلاقة بين التحديات والفرص

مع بداية العام الجديد وفي ذكرى انطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة، تُحي حركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح" ومعها مكونات الثورة المعاصرة من مقاتلي ومناضلي وباقي قوى منظمة التحرير الفلسطينية غدا وفي الأول من العام الجديد الذكرى 58 للأنطلاقة بأضاءة الأخ الرئيس أبو مازن شعلتها الى جانب ضريح الخالد أبا عمار، وقضيتنا الفلسطينية تعيش مرحلة فارقة من تاريخ الصراع مع الأحتلال الاستعماري وسياساته الاجرامية التصفوية. الأمر الذي يتطلب منا التأكيد على جوهر مرحلة التحرر الوطني التي ما زلنا نخوضها وبإعادة الأعتبار والحضور لمشروعنا الوطني التحرري للتخلص من كل أشكال الأحتلال الأستيطاني والابرتهايد اولاً.

 تأتي هذه الذكرى اليوم في وقت تتسارع فيه الاحداث الدولية نحو متغيرات اصبحت تطيح بأشكال النظام الدولي القائم وتحديدا في شأن افول الهيمنة الأمريكية الراعي الاساس لمشروع الحركة الصهيونية من جهة، ومن جهة أخرى تصاعد التحولات والتطورات الجارية في شكل ومضمون الأحتلال مع تشكيل حكومته الجديدة، التي تعتمد التصعيد العدواني والأستعماري الإسرائيلي القائم والمُقبل ضد شعبنا وفق ما حددته من رؤية في برنامج ائتلافها الحكومي بخصوص الحق الحصري لليهود في أرض فلسطين التاريخية وكل ما يرتبط بهذا المفهوم العنصري.
 
تلك التطورات وغيرها، ان كان بالقارة الأوروبية التي ما زال الغرب منها يُخضِع نفسه لأملاءات السياسات الأمريكيةالخارجية وازدواجية المعايير الدولية، أو بأمريكيا اللاتينية التي تشهد انتصارات قوى اليسار التقدمي فيها، كما وصعود تحالفات جديدة اورواسيوية بقيادة روسيا والصين، وتغيرات اقليمية تتعلق باستمرار تداعيات ما سُمي بالربيع العربي الذي أضعف وانهك شكل الدولة الوطنية بالعالم العربي وباتفاقيات التطبيع مع دولة الأحتلال التي تعزز مكانة تفوق إسرائيل، جميعها تستدعي اليوم إجراء مراجعات نقدية شاملة تاخذ هذه المتغيرات بعين الاعتبار من اجل وضع رؤية ثورية عملية وواقعية لمسار "فتح" ومعها مكونات الحركة الوطنية الفلسطينية الأخرى في مواجهة تلك التحديات التي باتت عاملا مؤثرا في مسار كفاحنا نحو الحرية والعودة والاستقلال الوطني. 

فقد بات ملحا امام هذه التطورات والمتغيرات العمل اولاً على ضرورة استعادة وحدة الوطن السياسية والأدارية بعد ما حدث من انقلاب في الشق الجنوبي منه، وفي وضع الرؤية المتكاملة لمواجهة التطورات الجارية في دولة الاحتلال التي تعكس التطور الطبيعي "لدولة" قامت على أساس التطهير العرقي وفكر الأستعمار الأستيطاني قبل 75 عاما دون مسائلة حتى اليوم من النظام الدولي القائم بل وبتشجيع منه على ارتكاب جرائمها.

حيث بات يَتسم هذا النظام السياسي فيها الاَن بأعلى أشكال الفكر الصهيوني الفاشي وتصاعد أزماتها الداخلية والفوضى السياسية وبالأصرار على تطويع تشريعاتها ونظامها القضائي على هذا الأساس من أجل خدمة التحالف الحكومي القائم واستدامته بقيادة نتنياهو وتمرير مشروعهم الصهيوني التوراتي على حساب حقوق شعبنا التاريخية والسياسية.

ثمانية وخمسون عاماً من عُمر "فتح" ومن عُمر جيلنا وعُمر حركتنا الوطنية الفلسطينية ولا زالت ثورتنا المعاصرة تمضي من أجل استكمال مرحلة تحررنا الوطني الناجز. وفي هذا الأمر يكمُن حجر الزاوية الذي يستدعي الأهتمام والعمل والوضوح لمواجهة الضغوطات من اطراف مختلفة لفرض الركض خلف سراب الأفكار السياسية الأمريكية باختلاف اداراتها. 

مسيرة منذ الانطلاقة وما قبلها من نضال الحركة الوطنية منذ ثلاثينات القرن الماضي بها الكثير من المعاناة والاَلم والتضحيات، لكن بها أيضاً الكثير من الإنجازات والانتصارات رغم تعقيدات المشهد المتراكمة منذ عقود.

انطلاقة كان لها الفضل بإبقاء الأمل للشعب والأجيال، حين أعادت لنا روح الهوية الوطنية بالبندقية المقاتلة والكلمة الثائرة، فخاضت المعارك وصمدت في ساحات مختلفة وأعلت اعلان الأستقلال وراكمت على انتفاضات الوطن، لتُبقي على القدس درة التاج ولتكرس المقاومة الشعبية بكافة اشكالها المتاحة التي اقرتها المواثيق الدولية التي تمكنت من خلالها شعوب مختلفة من تحقيق حرياتها.

فكانت " فتح " هي الفكرة وما زالت هي الأداة في التعبير عن روح الشعب الفلسطيني وتعدديته الفكرية في انطلاقته المتجددة والمستمرة نحو حريته واستقلاله وتقدمه الأجتماعي، والتي يجب أن تبقى بوحدتها عصية على الكسر كما كانت منذ انطلاقتها، وهي التي يجب ان تكون المظلة لأبناء شعبنا والحاضنة لكافة أبنائها، وهي التي يجب أن تستمر في تجسيد جوهر البرنامج الوطني للكيانية الفلسطينية والهوية الوطنية المستقلة، التي حافظت عليها باحلك الظروف بأشكال الكفاح المتعددة التي اقتضتها المراحل باستقلالية وطنية جامعة ومميزة بمكوناتها الفكرية المختلفة التي عكست تنوع مجتمعنا وشعبنا الفلسطيني. 

فكانت هي حركة الشعب الفلسطيني التي مزجت بين العمل الفدائي والسياسي والجماهيري، وهي التي اكدت على مقولة أن الدين لله وأن الوطن للجميع، دون القبول بجعل الدين هوية سياسية رغم احترام مكانة منابعه المسيحية والإسلامية.

ثورتنا المعاصرة هي من حملت القضية الوطنية الفلسطينية عبر 58 عاما مضت، فكانت مَن حرر شعبنا من حالة الوصاية والسلبية والاحباط التي سادت بعد جريمة النكبة عندما كانت القضية تتركز فقط حول معنى إنساني يتعلق بنا كلاجئين، ونقلتها الى قضية شعب له حقوق وطنية سياسية، فسارت "فتح" مع شعبنا من رماد النكبة الى جمر الثورة حتى يومنا هذا.

فكانت "فتح" وما زالت هي مسيرة الشهداء والأسرى التي تطول سيرتها، وهي صمام اَمان القرار الوطني المستقل عبر سنوات المسيرة والكفاح والتضحيات، هي الفكرة الفلسطينية الثورية الواقعية التي جسدت معاني العمل الوطني بعمقه الإنساني التحرري والتقدمي باستقلالية وطنية جامعة ومميزة، فحملت شعلة حركات التحرر العالمية ضد كافة اشكال الاستعمار والاستغلال والاحتلال المختلفة. وهي التي ما زالت تشكل العمود الأساسي الفقري للحركة الوطنية الفلسطينية نحو انجاز أهدافها مع شركاء المصير في إطار منظمة التحرير الفلسطينية، ذلك البيت الجامع للكل الوطني الفلسطيني ومجتمعه المدني، والتي قدم شعبنا التضحيات من أجل وحدانية تمثيلها أمام كل المحاولات الفاشلة لخلق البدائل لها على مدار العقود الماضية منذ تاسيسها، رغم الحاجة الماسة اليوم لتفعيل واستنهاض دوائرها ودورها في قيادة العمل الوطني وكمرجعية للعمل الهادف الى بناء الدولة المتمثل بمؤسسات السلطة الوطنية التي تشكل مرحلة مؤقتة نحو انجاز الاستقلال الوطني والدولة.

فنالت ثورتنا المعاصرة بعد انطلاقاتها الاعترافات الأممية واخترقت المحافل الدولية بغصن الزيتون في يد الخالد المؤسس ياسر عرفات والبندقية في يده الاخرى لتحافظ لاحقا على عدم سقوط أي منهم، ولتحقق مكانة فلسطين بالأمم المتحدة على طريق استكمال الأعتراف الكامل بالدولة نحو حق تقرير المصير وإنهاء الاحتلال الاستيطاني البشع وتحقيق ثوابت شعبنا. 

فشرارة الأنطلاقة أنتجت ثورة لن يشهد التاريخ الحاضر تكرارها بحكم تعقيدات ظروفها الموضوعية والذاتية ، لتنطلق بعدها فصائل وقوى أخرى تشق الطريق لتعاصر الثورة وتقاتل من خلالها وتقدم الشهداء والأسرى والتضحيات معاً بمعارك الصمود والدفاع عن القرار الوطني في مختلف الساحات. وكما قال الشهيد المناضل غسان كنفاني " قد استطاعت "فتح" برصاصة واحدة ان تجمع حولها عامة الشعب الفلسطيني." 

 لقد استمرت "فتح" لتؤكد انها لازالت حركة تحرر وطني وان كفاحنا من اجل دحر الاحتلال والاستيطان ومن أجل الحرية والديمقراطية والدولة المستقلة وحقوق اللاجئين مستمر ولن يتوقف حتى تتحقق لشعبنا العدالة برفع الظلم التاريخي الذي حل به منذ جريمة النكبة، فكانت "فتح" هي الديمومة ويجب ان تبقى هي الشعلة التي تقود الطريق بتجدد دائم دون جمود أو تراجع او القبول بفرض تبعيات جديدة عليها. 

في الذكرى الـ58 أقول لأجيال "فتح" وأبناء شعبنا كافة، حركتكم صنعت حضناً وطنياَ جامعاً ومجداً ، فحافظوا عليه وحافظوا عليها واستمروا في حمل أمانة الفكرة ووطنية جوهرها وانسانية عمقها، كرسوا منهج العمل الديمقراطي فيها وفي شتى مجالات مجتمعنا ووطننا الذي لا نملك سواه، وحافظوا على فكرها الوطني التقدمي الملازم لمسيرتها منذ الانطلاقة دون جرها الى تنافس في مربعات قوى أخرى من أصحاب الفكر الديني السياسي ودون الانجرار الى خلافات هنا او هنالك باوساط الحركة قد تعيق الفكرة التي انطلقت من اجلها، حتى نستطيع أن نحقق مع الكل الوطني الحرية ونُجسد مبادئ اعلان الأستقلال وجوهره والفكر التحرري التنويري التي انطلقت من أجلها الثورة من رماد تلك المرحلة.

 أننا نعيش اليوم في عالم صعب ومعقد، عالم اصبحت تحكمه علاقات المصالح للدول والقوى ونظام عالمي حتى اللحظة لا تسوده العدالة.

لكنها الفرص أمامنا في عالم متغير، علينا أن نؤثر فيه باستنباط أشكال الصمود والمقاومة الشعبية واعادة صياغة العلاقة مع هذا الأحتلال الفاشي على أساس التناقض والصراع، واستقطاب الأصدقاء من احرار العالم وقواه الديمقراطية التقدمية حتى نكون قادرين على توسيع شبكة تحالفاتنا مع جماهير تلك القوى حتى تؤثر هي في سياسات حكوماتها، والتقدم نحو الرؤية والهدف في ظل سرعة المتغيرات السياسية الجارية التي لا تقبل شعوب العالم فيها باستدامة سكونها دون انتصار حرياتها وحقوقها الاجتماعية والاقتصادية وإشاعة العدالة لها.

وإذ تحمل اليوم الحكومة الإسرائيلية الجديدة طابعا فاشيا منفّراً للمجتمع الدولي حتى لأوساط يهودية عالمية خاصة بالولايات المتحدة، فهي فرصة لتكثيف حملات المقاطعة وفرض العقوبات والعزلة على دولة استعمار ونظام عنصري مارق، من خلال تكثيف العمل مع تلك الشعوب وقواها الصديقة والحليفة التي تستمر اليوم في تاكيد رفضها لاستمرار إسرائيل كدولة احتلال استيطاني فوق القانون الدولي وكنظام فصل عنصري يستند الى الفوقية اليهودية، وهي فرصة أمامنا اليوم لإعادة اعتبار الصهيونية في مساواة العنصرية من خلال قرار أممي والتوجه السريع إلى المحاكم الدولية بل والأوروبية أيضا ضد جرائمها ومجرمي الحرب فيها.

اليوم هناك تهديدات رئيسية ستواجه دولة إسرائيل الاستعمارية خلال هذا العام الجديد، أهمها الاتجاهات العالمية الجارية أو التصعيد العالمي الجاري، خاصة الصراع بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين وروسيا، واحتمال تصاعده وما يحمله من تداعيات على دول العالم وتحديدا الشعوب الأوروبية التي أصبحت ترى مخاطر الفكر الصهيوني الذي سبب لها جزء من ازماتها والاَمها عبر التاريخ. 

تلك هي التحديات والفرص أمامنا ، فلنُحسن الأداء، على أمل أن يتحقق عام جديد ينعم به الوطن ونحن والبشرية جمعاء بالسلامة والأمن والسلام والتخلص من أشكال أستعمار وأحتلال مختلفة وأضطهاد وأستغلال قبيح ما زالت تسود بهذا العالم المتغير حتى اللحظة، وكما قال الشاعر الثوري ناظم حكمت، فإن أجمل الأيام هي تلك التي لم تأتي بعد.

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر وكالة صدى نيوز.