وداعا وإلى اللقاء كريم.. وداع الاعتذار
مقالات

وداعا وإلى اللقاء كريم.. وداع الاعتذار

لأول مرة في التاريخ المكتوب "المتداول" تحتجز سلطة احتلال أسيرا لأربعة عقود متتالية وبرغم كل ما تعرض له استطاع الصمود والثبات وانتهت هذه العقود وخرج من داخل أماكن الاحتجاز اللاإنسانية والتي تفوح منها رائحة الموت، ففي كل عام يودع الأسرى والشعب الفلسطيني أسرى مضوا نتيجة الجرائم الطبية وعدم المتابعة الصحية والغذائية والنفسية.

 

يخرج كريم يونس بعد أربعة عقود من داخل هذه الأقبية المظلمة وكعادتهم يقوم رفاق الأسر بوداع الأسير المفرج عنه وقد شاهدنا مئات حالات الإفراج والتحرر غير أن هذا الوداع لم يكن كأي وداع ولم يأت بعد الموقف الذي يقف فيه أسير أمضى أربعين عاما ويبدأ كلماته بالاعتذارعن تحرره دون رفاقه ولم يشهد التاريخ موقفا مؤثرا يتمنى فيه أسير أمضى أربعين عاما أن يبقى سنوات إضافية فقط ليخرج برفقة زملائه، هذا ما حصل عندما ودعنا كريم ليلة إطلاق سراحه في معتقل هداريم.


بدأت مراسم وداع كريم في ساحة المعتقل بالوقوف على شكل حلقة حيث ألقى الأسير ثابت مرداوي كلمة مؤثرة قال فيها إن كريم الموضوع هو وصمة على كل حر في هذا العالم فكيف يبقى أسير داخل جدران السجون لأربعين عاما، أما كريم الذات فهو أخٌ حبيبٌ ورفيقٌ وقائدٌ شهدت له ولأخلاقه ولمكارمه ساحات الاعتقال لأربعة عقود وإننا فرحون جدا بحريته وعودته بعد هذه المدة الطويلة جدا، ونرجوه بأن يكون سعيدا وأن يصطاد لحظات الفرح والسعادة .


بعد ذلك تحدث الأسير مروان البرغوثي مشيدا بكريم وخصاله الوطنية وقامته العالية وصبره وسعة صدره اللامحدود فهو مثال يحتذى به لكل حر في هذا العالم وهو صورة الفلسطيني الصلب وهو التجسيد الحقيقي للهوية الوطنية الفلسطينية، فهو كان ولا زال رمزا عابرا للفصائلية والحزبية والحدود. بعد ذلك تحدث الأسير محمود أبو سرور الذي بكى وأبكى الحضور عندما ذكر بالخذلان الطويل والمرير والقاسي الذي تعرض له الأسرى، وذكر رسمة كريم للقطار الذي أسماه قطار الحرية وهو يمر متجاوزا الأسرى وها هو القطار قد عاد لكريم بعد أربعين عاما على أمل أن لا تستغرق رحلته القادمة ايضا أربعين عاما للوصول لمحطة الأسرى وتخليصهم من هذا الكابوس.


ثم تحدث الأسير محمود عيسى الذي بدأ كلمته بالقول التقيت بكريم قبل ثلاثين عاما حينما كان شابا وها أنا اليوم أودعه وهو ينهي أربعين عاما من الألم والمعاناة والقهر وفراق الأحبة، هذا الموقف الذي يستدعي من كل قادة الشعب الفلسطيني كتابة أربعين ألف رسالة اعتذار بدل رسالة وفاء لكرم، موقف يتوجب أن ينحني الجميع أولا احتراما لكريم وثانيا خجلا من تقصيرهم بالبذل والعمل والمحاولة حتى الإفراج عنه، كريم والأسرى ليسوا بحاجة لتعاطف أو رفع معنويات الأسرى بحاجة لفعل حقيقي للإفراج عنهم وهذا لن يكون بالشعارات والأحاديث الإعلامية، هذا لن يكون إلا بتأمين الإفراج عنهم وبكل الطرق والوسائل. كانت كلماته مؤثرة لم نستطع تمالك أنفسنا.


فتحدث كريم والدموع تغزوا عينيه فقال:" أنتم موجودون معي أينما أذهب وأنا لن استطيع أن أتخلص من السجن مع أنني لا أتمنى إلا أن ننساه سويا، كنتُ أحبذ أن أبقى معكم على أن يطلق سراحنا سويا ، أنتم ستبقون حاضرين معي أينما ذهبت ومهما ابتعدنا ومهما طالت السنوات.


كريم الذي تحدث وهو يشعر بثقل اللحظة وبحساسية الموقف فهو برغم سنواته الطويلة داخل الأسر يعتذر عن الإفراج عنه ويخجل من النظر في عيوننا وعندما سلم عليه الأسرى وقبلوه على جبينه ظهرت معالم التأثر على وجهه، وعندما سلمتُ عليه وقلت له ألف مبروك فقال "والله الحمل كبير" فقلت له "ربنا يعينك".


كان وداعا لا يشبه أي وداع فهو يحمل كل التناقضات ولحظاته تخللها كل ما في الكون من مشاعر مختلطة فلحظات السعادة تطغى على الموقف برغم الألم الشديد والحسرة البائنة على وجوه الأسرى الذين يمضون عشرات السنوات داخل القبور المسماة سجون .

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر وكالة صدى نيوز.